فصل: ذكر زوجاته وبنيه وبناته رضي الله عنهم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 فصل من مناقبه رضي الله عنه‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا هشيم، ثنا محمد بن قيس الأسدي، عن موسى بن طلحة‏.‏ قال‏:‏ سمعت عثمان بن عفان وهو على المنبر والمؤذن يقيم الصلاة وهو يستخبر الناس يسألهم عن أخبارهم، وأسفارهم‏.‏

وقال أحمد‏:‏ حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، ثنا يونس - يعني‏:‏ ابن عبيد -، حدثني عطاء بن فروخ مولى القرشيين أن عثمان اشترى من رجل أرضاً، فأبطأ عليه فلقيه، فقال‏:‏ ما منعك من قبض مالك ‏؟‏‏.‏

قال‏:‏ إنك غبنتني، فما ألقى من الناس أحداً إلا وهو يلومني‏.‏

قال‏:‏ أذلك يمنعك‏؟‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏‏.‏

قال‏:‏ فاختر بين أرضك ومالك، ثم قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أدخَلِ الله الجنة رجلاً كان سهلاً مشترياً وبائعاً وقاضياً ومقتضياً‏)‏‏)‏‏.‏

وروى ابن جرير‏:‏ أن طلحة لقي عثمان وهو خارج إلى المسجد فقال له طلحة‏:‏ إن الخمسين ألفاً التي تلك عندي قد حصلت فأرسل من يقبضها‏.‏

فقال له عثمان‏:‏ إنا قد وهبناكها لمروءتك‏.‏

وقال الأصمعي‏:‏ استعمل ابن عامر قطن بن عوف الهلالي على كرمان، فأقبل جيش من المسلمين - أربعة آلاف - وجرى الوادي فقطعهم عن طريقهم، وخشي قطن الفوت‏.‏

فقال‏:‏ من جاز الوادي‏؟‏ فله ألف درهم، فحملوا أنفسهم على العوم، فكان إذا جاز الرجل منهم قال‏:‏ قطن أعطوه جائزته، حتى جازوا جميعاً، وأعطاهم أربعة آلاف ألف درهم، فأبى ابن عامر أن يحسبها له، فكتب بذلك إلى عثمان بن عفان، فكتب عثمان‏:‏ أن احسبها له فإنه إنما أعان المسلمين في سبيل الله، فمن ذلك اليوم سميت الجوائز لإجازة الوادي‏.‏

فقال الكناني ذلك‏:‏

فَدىً للأكرمين بني هلال * على عِلاتهم أهلي ومالي

همَّوا سنَّوا الجوائز في معدٍّ * فعادت سنَّةً أخرى الليالي

رماحهمُ تزيد على ثمان * وعشرٍ قبل تركيب النصالِ

‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 243‏)‏

فصل ومن مناقبه أيضاً‏.‏

ومن مناقبة الكبار وحسناته العظيمة‏:‏ أنه جمع الناس على قراءة واحدة، وكتب المصحف على الفرضة الأخيرة، التي درسها جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر سني حياته‏.‏

وكان سبب ذلك‏:‏ أن حذيفة بن اليمان كان في بعض الغزوات، وقد اجتمع فيها خلق من أهل الشام ممن يقرأ على قراءة المقداد بن الأسود، وأبي الدرداء، وجماعة من أهل العراق، ممن يقرأ على قراءة عبد الله بن مسعود، وأبي موسى، وجعل من لا يعلم بسوغان القراءة على سبعة أحرف يفضل قراءته على قراءة غيره، وربما خطّأ الآخر أو كفره‏.‏

فأدى ذلك إلى اختلاف شديد، وانتشار في الكلام السيء بين الناس، فركب حذيفة إلى عثمان فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن تختلف في كتابها كاختلاف اليهود والنصارى في كتبهم‏.‏

وذكر له ما شاهد من اختلاف الناس في القراءة، فعند ذلك جمع عثمان الصحابة وشاورهم في ذلك، ورأى أن يكتب المصحف على حرف واحد، وأن يجمع الناس في سائر الأقاليم على القراءة به، دون ما سواه، لما رأى في ذلك من مصلحة كف المنازعة ودفع الاختلاف، فاستدعى بالصحف التي كان الصديق أمر زيد بن ثابت يجمعها، فكانت عند الصديق أيام حياته، ثم كانت عند عمر‏.‏

فلما توفي صارت إلى حفصة أم المؤمنين، فاستدعى بها عثمان، وأمر زيد بن ثابت الأنصاري أن يكتب، وأن يملي عليه سعيد بن العاص الأموي بحضرة عبد الله بن الزبير الأسدي، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، وأمرهم إذا اختلفوا في شيء أن يكتبوه بلغة قريش‏.‏

فكتب لأهل الشام مصحفاً، ولأهل مصر آخر، بعث إلى البصرة مصحفاً، وإلى الكوفة بآخر، وأرسل إلى مكة مصحفاً، وإلى اليمين مثله، وأقر بالمدينة مصحفاً‏.‏

ويقال لهذه المصاحف‏:‏ الأئمة، وليست كلها بخط عثمان بل ولا واحد منها، وإنما هي بخط زيد بن ثابت‏.‏

وإنما يقال لها المصاحف‏:‏ العثمانية، نسبة إلى أمره وزمانه وإمارته، كما يقال‏:‏ دينار هرقلي، أي‏:‏ ضرب في زمانه ودولته‏.‏

قال الواقدي‏:‏ حدثنا ابن أبي سبرة، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة‏.‏

ورواه غيره من وجه آخر‏:‏ عن أبي هريرة قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لما نسخ عثمان المصاحف دخل عليه أبو هريرة فقال‏:‏ أصبت ووفقت، أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ إن أشد أمتي حبَّاً لي، قوم يأتون من بعدي يؤمنون ولم يروني، يعملون بما في الورق المعلق‏.‏

فقلت‏:‏ أي ورق‏؟‏

حتى رأيت المصاحف، قال‏:‏ فأعجب ذلك عثمان، وأمر لأبي هريرة بعشرة آلاف، وقال‏:‏ والله ما علمت أنك لتحبس علينا حديث نبينا صلى الله عليه وسلم‏)‏‏)‏‏.‏

ثم عمد إلى بقية المصاحف التي بأيدي الناس مما يخالف ما كتبه فحرقه، لئلا يقع بسببه اختلاف‏.‏

فقال أبو بكر بن أبي داود في ‏(‏كتاب المصاحف‏)‏‏:‏ حدثنا محمد بن بشار، ثنا محمد بن جعفر وعبد الرحمن قالا‏:‏ ثنا شعبة، عن علقمة بن مرثد، عن رجل، عن سويد بن غفلة‏.‏ قال‏:‏ قال لي علي حين حرق عثمان المصاحف‏:‏ لو لم يصنعه هو لصنعته‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 244‏)‏

وهكذا رواه أبو داود الطيالسي‏:‏ وعمرو بن مرزوق عن شعبة مثله‏.‏

وقد رواه البيهقي وغيره من حديث محمد بن أبان - زوج أخت حسين -، عن علقمة بن مرثد قال‏:‏ سمعت العيزار بن جرول، سمعت سويد بن غفلة قال‏:‏

قال علي‏:‏ أيها الناس‏!‏ إياكم والغلو في عثمان، تقولون حرق المصاحف، والله ما حرقها إلا عن ملأٍ من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ولو وليت مثل ما ولي لفعلت مثل الذي فعل‏.‏

وقد رُوي عن ابن مسعود‏:‏ أنه تعتب لما أخذ منه مصحفه فحرق، وتكلم في تقدم إسلامه على زيد بن ثابت الذي كتب المصاحف، وأمر أصحابه أن يغلوا مصاحفهم، وتلا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 161‏]‏‏.‏

فكتب إليه عثمان رضي الله عنه يدعوه إلى إتباع الصحابة فيما أجمعوا عليه من المصلحة في ذلك، وجمع الكلمة، وعدم الاختلاف، فأناب وأجاب إلى المتابعة، وترك المخالفة رضي الله عنهم أجمعين‏.‏

وقد قال أبو إسحاق‏:‏ عن عبد الرحمن بن يزيد‏:‏ أن عبد الله بن مسعود دخل مسجد منى فقال‏:‏ كم صلى أمير المؤمنين الظهر ‏؟‏‏.‏

قالوا‏:‏ أربعاً‏.‏

فصلى ابن مسعود أربعاً‏.‏

فقالوا‏:‏ ألم تحدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر صلوا ركعتين ‏؟‏‏.‏

فقال‏:‏ نعم، وأنا أحدثكموه الآن، ولكني أكره الاختلاف‏.‏

وفي الصحيح‏:‏ أن ابن مسعود قال‏:‏ ليت حظي من أربع ركعات ركعتين متقبلتين‏.‏

وقال الأعمش‏:‏ حدثني معاوية بن قرة - بواسط -، عن أشياخه قالوا‏:‏ صلى عثمان الظهر بمنى أربعاً، فبلغ ذلك ابن مسعود فعاب عليه، ثم صلى بأصحابه العصر في رحله أربعاً، فقيل له‏:‏ عتبتَ على عثمان وصليت أربعاً‏؟‏ فقال‏:‏ إني أكره الخلاف‏.‏ وفي رواية‏:‏ الخلاف شر‏.‏

فإذا كان هذا متابعة من ابن مسعود إلى عثمان في هذا الفرغ، فكيف بمتابعته إياه في أصل القرآن‏؟‏ والاقتداء به في التلاوة التي عزم على الناس أن يقرؤا بها لا بغيرها ‏؟‏‏.‏

وقد حكى الزهري وغيره‏:‏ أن عثمان إنما أتم خشية على الأعراب أن يعتقدوا أن فرض الصلاة ركعتان، وقيل‏:‏ بل قد تأهل بمكة‏.‏

فروى يعلى وغيره‏:‏ من حديث عكرمة بن إبراهيم، حدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن الحارث بن أبي ذباب، عن أبيه‏:‏ أن عثمان صلى بهم بمنى أربع ركعات، ثم أقبل عليهم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ إذا تزوج الرجل ببلد فهو من أهله،‏)‏‏)‏ وإني أتممت لأني تزوجت بها منذ قدمتها‏.‏

وهذا الحديث لا يصح، وقد تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة القضاء بميمونة بنت الحارث ولم يتم الصلاة‏.‏

وقد قيل‏:‏ إن عثمان تأول أنه أمير المؤمنين حيث كان وهكذا تأولت عائشة فأتمت، وفي هذا التأويل نظر فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو رسول الله حيث كان، ومع هذا ما أتم الصلاة في الأسفار‏.‏

ومما كان يعتمده عثمان بن عفان أنه كان يلزم عماله بحضور الموسم كل عام، ويكتب إلى الرعايا‏:‏ من كانت له عند أحد منهم مظلمة فليواف إلى الموسم فإني آخذ له حقه من عامله‏.‏

وكان عثمان قد سمح لكثير من كبار الصحابة في المسير حيث شاءوا من البلاد، وكان عمر يحجر عليهم في ذلك حتى ولا في الغزو، ويقول‏:‏ إني أخاف أن تروا الدنيا، وأن يراكم أبناؤها‏.‏

فلما خرجوا في زمان عثمان اجتمع عليهم الناس، وصار لكل واحد أصحاب، وطمع كل قوم في تولية صاحبهم الإمارة العامة بعد عثمان، فاستعجلوا موته واستطالوا حياته حتى وقع ما وقع من بعض أهل الأمصار كما تقدم، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم، العلي العظيم‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 245‏)‏

تزوج برقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فولد له منها عبد الله، وبه كان يكنى، بعد ما كان يكنى في الجاهلية‏:‏ بأبي عمرو‏.‏

 ذكر زوجاته وبنيه وبناته رضي الله عنهم

ثم لما توفيت تزوج بأختها أم كلثوم‏.‏

ثم توفيت فتزوج بفاختة بنت غزوان بن جابر، فوِلد له منها عبيد الله الأصغر‏.‏

وتزوج بأم عمرو بنت جندب بن عمرو الأزدية، فولدت له عمراً، وخالداً، وأباناً، وعمر، ومريم‏.‏

وتزوج بفاطمة بنت الوليد بن عبد شمس المخزومية، فولدت له الوليد، وسعيداً‏.‏

وتزوج أم البنين بنت عيينة بن حصن الفزارية، فولدت له عبد الملك، ويقال‏:‏ عتبة‏.‏

وتزوج رملة بنت شيبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، فولدت له عائشة، وأم أبان، وأم عمرو، بنات عثمان‏.‏

وتزوج نائلة بنت الفرافصة بن الأحوص بن عمرو بن ثعلبة بن حصن بن ضمضم بن عدي بن حيان بن كليب، فولدت له مريم، ويقال‏:‏ وعنبسة‏.‏

وقتل رضي الله عنه وعنده أربع‏:‏ نائلة، ورملة، وأم البنين، وفاختة‏.‏

ويقال‏:‏ إنه طلق أم البنين وهو محصور‏.‏

فصل ذكر حديث‏:‏ تدور رحا الإسلام ‏.‏‏.‏‏.‏

تقدم في ‏(‏دلائل النبوة‏)‏ الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود‏:‏ من حديث سفيان الثوري، عن منصور، عن ربعي، عن البراء بن ناجية الكاهلي، عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏إن رحا الإسلام ستدور لخمس وثلاثين أو ست وثلاثين أو سبع وثلاثين، فإن تهلك فسبيل ما هلك، وإن يقم لهم دينهم يقم لهم سبعين عاماً‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فقال عمر‏:‏ يا رسول الله أبما مضى أم بما بقي ‏؟‏‏.‏

قال‏:‏ بل بما بقي‏)‏‏)‏‏.‏

وفي لفظ له ولأبي داود‏:‏ ‏(‏‏(‏تدور رحا الإسلام لخمس وثلاثين، أو ست وثلاثين‏)‏‏)‏ الحديث‏.‏‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 246‏)‏

وكأن هذا الشك من الراوي، والمحفوظ في نفس الأمر خمس وثلاثين، فإن فيها قتل أمير المؤمنين عثمان على الصحيح‏.‏

وقيل‏:‏ ست وثلاثين، والصحيح الأول، وكانت أمور شنيعة، ولكن الله سلّم ووقى بحوله وقوته فلم يكن بأسرع من أن بايع الناس علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وانتظم الأمر، واجتمع الشمل، ولكن جرت بعد ذلك أمور في يوم الجمل، وأيام صفين على ما سنبينه إن شاء الله تعالى‏.‏

 في ذكر من توفي زمان عثمان ممن لا يعرف وقت وفاته على التعيين

أنس بن معاذ بن أنس بن قيس الأنصاري النجاري، ويقال له‏:‏ أنيس أيضاً، شهد المشاهد كلها رضي الله عنه‏.‏

أوس بن الصامت، أخو عبادة بن الصامت الأنصاريان، شهد بدراً، وأوس هو زوج المجادلة المذكور في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 1‏]‏، وامرأته خولة بنت ثعلبة‏.‏

أوس بن خولى الأنصاري من بني الحبلى، شهد بدراً وهو المنفرد من بين الأنصار بحضور غسل النبي صلى الله عليه وسلم، والنزول مع أهله في قبره عليه الصلاة والسلام‏.‏

الحر بن قيس، كان سيداً في الأنصار، ولكن كان بخيلاً ومتهماً بالنفاق، يقال‏:‏ إنه شهد بيعة الرضوان فلم يبايع، واستتر ببعير له وهو الذي نزل فيه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا‏}‏ الآية ‏[‏التوبة‏:‏ 49‏]‏‏.‏

وقد قيل‏:‏ إنه تاب وأقلع فالله أعلم‏.‏

الحطيئة الشاعر المشهور‏.‏

قيل‏:‏ اسمه جرول، ويكنى بأبي مليكة من بني عبس، أدرك أيام الجاهلية، وأدرك صدراً من الإسلام، وكان يطوف في الآفاق يمتدح الرؤساء من الناس ويستجديهم‏.‏

ويقال‏:‏ كان بخيلاً مع ذلك، سافر مرة فودع امرأته فقال لها‏:‏

عدي السنين إذا خرجت لغيبة * ودعي الشهور فإنهن قصار

وكان مداحاً هجاء، وله شعر جيد، ومن شعره ما قاله بين يدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فاستجاد منه قوله‏:‏

من يفعل الخير لم يعدم جوائزه * لا يذهب العرف بين الله والناس

خبيب بن يساف بن عتبة الأنصاري، أحد من شهد بدراً‏.‏

سلمان بن ربيعة الباهلي، يقال‏:‏ له صحبه، كان من الشجعان الأبطال المذكورين، والفرسان المشهورين، ولاه عمر قضاء الكوفة، ثم ولي في زمن عثمان إمرة على قتال الترك، فقتل ببلنجر، فقبره هناك في تابوت يستسقى به الترك إذا قحطوا‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/247‏)‏

عبد الله بن حذافة بن قيس القرشي السهمي، هاجر هو وأخوه قيس إلى الحبشة وكان من سادات الصحابة، وهو القائل‏:‏ ‏(‏‏(‏يا رسول الله من أبي‏؟‏ - وكان إذا لاحى الرجال دعى لغير أبيه -‏.‏

فقال‏:‏ أبوك حذافة‏)‏‏)‏‏.‏

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسله إلى كسرى، فدفع كتابه إلى عظيم بصرى، فبعث معه من يوصله إلى هرقل كما تقدم‏.‏

وقد أسرته الروم في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفي جملة ثمانين من المسلمين، فأرادوه على الكفر فأبى عليهم‏.‏

فقال له الملك‏:‏ قبل رأسي وأنا أطلقك ومن معك من المسلمين، فقبل رأسه فأطلقهم‏.‏

فلما قدم على عمر قال له‏:‏ حق على كل مسلم أن يقبل رأسك، ثم قام عمر فقبل رأسه قبل الناس رضي الله عنه‏.‏

عبد الله بن سراقة بن المعتمر، العدوي صحابي أحدي‏.‏

وزعم الزهري‏:‏ أنه شهد بدراً فالله أعلم‏.‏

عبد الله بن قيس بن خالد الأنصاري، شهد بدراً‏.‏

عبد الرحمن بن سهل بن زيد الأنصاري الحارثي، شهد أحداً وما بعدها‏.‏

وقال ابن عبد البر‏:‏ شهد بدراً، استعمله عمر على البصرة بعد موت عتبة بن غزوان، وقد نهشته حية فرقاه عمارة بن حزم، وهو القائل لأبي بكر‏:‏ - وقد جاءته جدتان فأعطى السدس أم الأم، وترك الأخرى وهي أم الأب - فقال له‏:‏ أعطيت التي لو ماتت لم يرثها، وتركت التي لو ماتت لورثها، فشرك بينهما‏.‏

عمرو بن سراقة بن المعتمر العدوي، أخو عبد الله بن سراقة، وهو بدري كبير، روي‏:‏ أنه جاع مرة فربط حجراً على بطنه من شدة الجوع، ومشى يومه ذلك إلى الليل، فأضافه قوم من العرب ومن معه، فلما شبع قال لأصحابه‏:‏ كنت أحسب الرجلين يحملان البطن، فإذا البطن يحمل الرجلين‏.‏

عمير بن سعد الأنصاري الأوسي، صحابي جليل القدر، كبير المحل، كان يقال له‏:‏ نسيج وحده لكثرة زهادته وعبادته‏.‏

شهد فتح الشام مع أبي عبيدة، وناب بحمص وبدمشق أيضاً في زمان عمر، فلما كانت خلافة عثمان عزله وولى معاوية الشام بكماله وله أخبار يطول ذكرها‏.‏

عروة بن حزام أبو سعيد العدوي، كان شاعراً مغرماً في ابنة عم له، وهي‏:‏ عفراء بنت مهاجر، يقول فيها الشعر، واشتهر بحبها، فارتحل أهلها من الحجاز إلى الشام، فتبعهم عروة فخطبها إلى عمه، فامتنع من تزويجه لفقره وزوجها بابن عمها الآخر، فهلك عروة هذا في محبتها، وهو مذكور في كتاب ‏(‏مصارع العشاق‏)‏، ومن شعره فيها قوله‏:‏

وما هي إلا أن أراها فجاءة * فأبهت حتى ما أكاد أجيب

وأصرف عن رأيي الذي كنت أرتأي * وأنسى الذي أعددت حين تغيب

قطبة بن عامر أبو زيد الأنصاري عقبي بدري‏.‏

قيس بن مهدي بن قيس بن ثعلبة الأنصاري النجاري، له حديث في الركعتين قبل الفجر‏.‏

وزعم ابن ماكولا‏:‏ أنه شهد بدراً‏.‏

قال مصعب الزبيري‏:‏ هو جد يحيى بن سعيد الأنصاري‏.‏

وقال الأكثرون‏:‏ بل هو جد أبي مريم عبد الغفار بن القاسم الكوفي فالله أعلم‏.‏

لبيد بن ربيعة أبو عقيل العامري الشاعر المشهور، صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد‏:‏

ألا كل شيء ما خلا الله باطل‏)‏‏)‏

وتمام البيت‏:‏ وكل نعيم لا محالة زائل‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 7/248‏)‏

فقال عثمان بن مظعون‏:‏ إلا نعيم الجنة‏.‏

وقد قيل‏:‏ أنه توفي سنة إحدى وأربعين فالله أعلم‏.‏

المسيب بن حزن بن أبي وهب المخزومي، شهد بيعة الرضوان، وهو والد سعيد بن المسيب، سيد التابعين‏.‏

معاذ بن عمرو بن الجموح الأنصاري، شهد بدراً، وضرب يومئذ أبا جهل بسيفه فقطع رجله، وحمل عكرمة بن أبي جهل على معاذ هذا فضربه بالسيف فحل يده من كتفه، فقاتل بقية يومه وهي معلقة يسحبها خلفه، قال معاذ‏:‏ فلما انتهيت وضعت قدمي عليها ثم تمطأت عليها حتى طرحتها رضي الله عنه‏.‏

وعاش بعد ذلك إلى هذه السنة سنة خمس وثلاثين‏.‏

محمد بن جعفر بن أبي طالب، القرشي الهاشمي، ولد لأبيه وهو بالحبشة، فلما هاجر إلى المدينة سنة خيبر وتوفي يوم مؤتة شهيداً، جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزلهم، فقال لأمهم أسماء بنت عميس‏:‏ إيتيني ببني وأخي، فجيء بهم كأنهم أفرخ فجعل يقبلهم ويشمهم ويبكي، فبكت أمهم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أتخافين عليهم العيلة وأنا وليهم في الدنيا والآخرة ‏؟‏‏)‏‏)‏ ثم أمر الحلاق فحلق رؤوسهم‏.‏

وقد مات محمد وهو شاب في أيام عثمان كما ذكرنا‏.‏ وزعم ابن عبد البر‏:‏ أنه توفي في تستر فالله أعلم‏.‏

معبد بن العباس بن عبد المطلب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قتل شاباً بإفريقية من بلاد المغرب‏.‏

معيقيب بن أبي فاطمة الدوسي، صاحب خاتم النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

قيل‏:‏ توفي في أيام عثمان، وقيل‏:‏ قبل ذلك، وقيل‏:‏ سنة أربعين والله أعلم‏.‏

منقذ عمرو الأنصاري، أحد بني مازن بن النجار، كان قد أصابته آفة في رأسه، فكسرت لسانه، وضعف عقله، وكان يكثر من البيع والشراء، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏من بايعت فقل لا خلابة، ثم أنت بالخيار في كل ما تشتريه ثلاثة أيام‏)‏‏)‏‏.‏

قال الشافعي‏:‏ كان مخصصاً بإثبات الخيار ثلاثة في كل بيع سواء اشترط الخيار أم لا‏؟‏

نعيم بن مسعود، أبو سلمة الغطفاني وهو الذي خذل بين الأحزاب وبين بني قريظة كما قدمناه، فله بذلك اليد البيضاء والراية العليا‏.‏

أبو ذؤيب خويلد بن خالد الهذلي، الشاعر، أدرك الجاهلية، وأسلم بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، وشهد يوم السقيفة وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أشعر هذيل، وهذيل أشعر العرب، وهو القائل‏:‏

وإذا المنية أنشبت أظفارها * ألفيت كل تميمة لا تنفع

وتجلدي للشامتين أريهم * أني لريب الدهر لا أتضعضع

توفي غازياً بإفريقية في خلافة عثمان‏.‏

أبو رهم سبرة بن عبد العزى القرشي الشاعر، ذكره في هذا الفصل محمد بن سعد وحده‏.‏

أبو زبيد الطائي، الشاعر، اسمه حرملة بن المنذر كان نصرانياً وكان يجالس الوليد بن عقبة فأدخله على عثمان فاستنشده شيئاً من شعره فأنشده قصيدة له في الأسد بديعة، فقال له عثمان‏:‏ تفتأ تذكر الأسد ما حييت إني لأحسبك جباباً نصرانياً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/249‏)‏

أبو سبرة بن أبي رهم العامري، أخو أبي سلمة بن عبد الأسد، أمهما‏:‏ برة بنت عبد المطلب، هاجر إلى الحبشة وشهد بدراً وما بعدها‏.‏

قال الزبير‏:‏ لا نعلم بدرياً سكن مكة بعد النبي صلى الله عليه وسلم سواه، قال‏:‏ وأهله ببدر في ذلك‏.‏

أبو لبابة بن عبد المنذر، أحد نقباء ليلة العقبة، وقيل‏:‏ أنه توفي في خلافة علي والله أعلم‏.‏

أبو هاشم بن عتبة، تقدم وفاته في سنة إحدى وعشرين، وقيل‏:‏ في خلافة عثمان والله أعلم‏.‏

 خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه

هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، واسمه عبد مناف بن عبد المطلب، واسمه‏:‏ شيبة بن هاشم، واسمه‏:‏ عمرو بن عبد مناف، واسمه‏:‏ المغيرة بن قصي، واسمه‏:‏ زيد بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، أبو الحسن والحسين، ويكنى‏:‏ بأبي تراب، وأبي القسم الهاشمي، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وختنه على ابنته فاطمة الزهراء‏.‏

وأمه‏:‏ فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف بن قصي‏.‏

ويقال‏:‏ إنها أول هاشمية ولدت هاشمياً، وكان له من الأخوة طالب، وعقيل، وجعفر، وكانوا أكبر منه، بين كل واحد منهم وبين الآخر عشر سنين، وله أختان‏:‏ أم هانئ، وجمانة، وكلهم من فاطمة بنت أسد، وقد أسلمت وهاجرت‏.‏

كان علي أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى، وكان ممن توفي ورسول الله صلى الله عليه وسلم راضٍ عنهم، وكان رابع الخلفاء الراشدين‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/250‏)‏

وكان رجلاً آدم شديداً الأدمة أشكل العينين عظيمهما، ذو بطن، أصلع، وهو إلى القصر أقرب، وكان عظيم اللحية، قد ملأت صدره ومنكبيه، أبيضها، وكان كثير شعر الصدر والكتفين، حسن الوجه، ضحوك السن، خفيف المشي على الأرض‏.‏

أسلم علي قديماً، وهو ابن سبع، وقيل‏:‏ ابن ثمان، وقيل‏:‏ تسع، وقيل‏:‏ عشر، وقيل‏:‏ أحد عشر، وقيل‏:‏ اثني عشر، وقيل‏:‏ ثلاثة عشر، وقيل‏:‏ أربع عشرة، وقيل‏:‏ ابن خمس عشرة، أو ست عشرة سنة، قاله عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، عن الحسن‏.‏

ويقال‏:‏ إنه أول من أسلم‏.‏

والصحيح‏:‏ أنه أول من أسلم من الغلمان، كما أن خديجة أول من أسلمت من النساء، وزيد بن حارثة أول من أسلم من الموالي، وأبو بكر الصديق أول من أسلم من الرجال الأحرار‏.‏

وكان سبب إسلام علي صغيراً‏:‏ أنه كان في كفالة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه كان قد أصابتهم سنة مجاعة، فأخذه من أبيه، فكان عنده، فلما بعثه الله بالحق آمنت خديجة وأهل البيت ومن جملتهم علي، وكان الإيمان النافع المتعدي نفعه إلى الناس إيمان الصديق رضي الله عنه‏.‏

وقد ورد عن علي أنه قال‏:‏ أنا أول من أسلم‏.‏ ولا يصح إسناده إليه‏.‏

وقد روي في هذا المعنى أحاديث أوردها ابن عساكر كثيرة منكرة لا يصح شيء منها والله أعلم‏.‏

وقد روى الإمام أحمد‏:‏ من حديث شعبة، عن عمرو بن مرة، سمعت أبا حمزة - رجلاً من موالي الأنصار - قال‏:‏ سمعت زيد بن أرقم يقول‏:‏ أول من أسلم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم علي‏.‏

وفي رواية‏:‏ أول من صلى‏.‏

قال عمرو‏:‏ فذكرت ذلك للنخعي فأنكره‏.‏

وقال‏:‏ أبو بكر أول من أسلم‏.‏

وقال محمد بن كعب القرظي‏:‏ أول من آمن من النساء خديجة، وأول رجلين آمنا أبو بكر وعلي، ولكن كان أبو بكر يظهر إيمانه وعلي يكتم إيمانه قلت‏:‏ يعني خوفاً من أبيه، ثم أمره أبوه بمتابعة ابن عمه ونصرته، وهاجر علي بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، وكان قد أمره بقضاء ديونه ورد ودائعه، ثم يلحق به، فامتثل ما أمره به، ثم هاجر، وآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سهل بن حنيف‏.‏

وذكر ابن إسحاق وغيره من أهل السير والمغازي‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بينه وبين نفسه، وقد ورد في ذلك أحاديث كثيرة لا يصح شيء منها لضعف أسانيدها، وركة بعض متونها فإن في بعضها‏:‏ ‏(‏‏(‏أنت أخي، ووارثي، وخليفتي، وخير من أمر بعدي‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا الحديث موضوع مخالف لما ثبت في الصحيحين وغيرهما والله أعلم‏.‏

وقد شهد علي بدراً، وكانت له اليد البيضاء فيها، بارز يومئذٍ فغلب وظهر، وفيه وفي عمه حمزة وابن عمه عبيدة بن الحارث وخصومهم الثلاثة - عتبة وشيبة والوليد بن عتبة - نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ‏}‏ الآية ‏[‏الحج‏:‏ 19‏]‏‏.‏

وقال الحكم وغيره‏:‏ عن مقسم، عن ابن عباس قال‏:‏ ‏(‏‏(‏دفع النبي صلى الله عليه وسلم الراية يوم بدر إلى علي، وهو ابن عشرين سنة‏)‏‏)‏‏.‏

وقال الحسن بن عرفة‏:‏ حدثني عمار بن محمد، عن سعيد بن محمد الحنظلي، عن أبي جعفر محمد بن علي قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نادى مناد في السماء يوم بدر يقال له رضوان‏:‏ لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتى إلا علي‏)‏‏)‏‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 7/251‏)‏

قال ابن عساكر‏:‏ وهذا مرسل وإنما تنفل رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه ذا الفقار يوم بدر، ثم وهبه من علي بعد ذلك‏.‏

وقال يونس بن بكير‏:‏ عن مسعر، عن أبي عوف، عن أبي صالح، عن علي قال‏:‏ قيل لي يوم بدر ولأبي بكر قيل لأحدنا معك جبريل ومع الآخر ميكائيل، قال‏:‏ وإسرافيل ملك عظيم يشهد القتال ولا يقاتل ويكون في الصف‏.‏

وشهد علي أحداً وكان على الميمنة ومعه الراية بعده مصعب بن عمير، وعلى الميسرة المنذر بن عمرو الأنصاري، وحمزة بن عبد المطلب، على القلب وعلى الرجالة الزبير بن العوام، وقيل‏:‏ المقداد بن الأسود، وقد قاتل علي يوم أحد قتالاً شديداً، وقتل خلقاً كثيراً من المشركين، وغسل عن وجه النبي صلى الله عليه وسلم الدم الذي كان أصابه من الجراح حين شج في وجهه وكسرت رباعتيه وشهد يوم الخندق فقتل يومئذ فارس العرب، وأحد شجعانهم المشاهير، عمرو بن عبدود العامري، كما قدمنا ذلك في غزوة الخندق‏.‏

وشهد الحديبية وبيعة الرضوان، وشهد خيبر، وكانت له بها مواقف هائلة، ومشاهد طائلة، منها‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله‏)‏‏)‏ فبات الناس يذكرون أيهم يعطاها، فدعا علياً - وكان أرمد - فدعا له، وبصق في عينه فلم يرمد بعدها، فبرأ وأعطاه الراية، ففتح الله على يديه، وقتل مرحباً اليهودي‏.‏

وذكر محمد بن إسحاق‏:‏ عن عبد الله بن حسن، عن بعض أهله، عن أبي رافع‏:‏ أن يهودياً ضرب علياً فطرح ترسه، فتناول باباً عند الحصن فتترس به، فلم يزل في يده حتى فتح الله على يديه ثم ألقاه من يده‏.‏

قال أبو رافع‏:‏ فلقد رأيتني أنا وسبعة معي نجتهد أن نقلب ذلك الباب على ظهره يوم خيبر فلم نستطع‏.‏

وقال ليث‏:‏ عن أبي جعفر، عن جابر‏:‏ أن علياً حمل الباب على ظهره يوم خيبر حتى صعد المسلمون عليه ففتحوها، فلم يحملوه إلا أربعون رجلاً‏.‏

ومنها‏:‏ أنه قتل مرحباً فارس يهود وشجعانهم‏.‏

وشهد علي عمرة القضاء، وفيها قال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أنت مني، وأنا منك‏)‏‏)‏‏.‏

وما يذكره كثير من القصاص في مقاتلته الجن في بئر ذات العلم - وهو بئر قريب من الجحفة - فلا أصل له، وهو من وضع الجهلة من الأخباريين فلا يغتر به‏.‏

وشهد الفتح وحنيناً والطائف، وقاتل في هذه المشاهد قتالاً كثيراً، واعتمر من الجعرانة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك واستخلفه على المدينة، قال له‏:‏ ‏(‏‏(‏يا رسول الله أتخلفني مع النساء والصبيان‏؟‏

فقال‏:‏ ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي‏)‏‏)‏‏.‏

وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم أميراً وحاكماً على اليمن، ومعه خالد بن الوليد، ثم وافى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع، إلى مكة، وساق معه هدياً، وأهل كأهلال النبي صلى الله عليه وسلم، فأشركه في هديه، واستمر على إحرامه، ونحرا هديهما بعد فراغ نسكهما كما تقدم، ولما مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له العباس‏:‏ سل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن الأمر بعده‏؟‏

فقال‏:‏ والله لا أسأله، فإنه إن منعناها لا يعطيناها الناس بعده أبداً‏.‏

والأحاديث الصحيحة الصريحة دالة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يوص إليه ولا إلى غيره بالخلافة، بل لوح بذكر الصديق، وأشار إشارة مفهمة ظاهرة جداً إليه، كما قدمنا ذلك ولله الحمد‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 7/252‏)‏

وأما ما يفتريه كثير من جهلة الشيعة والقصاص الأغبياء، من أنه أوصى إلى علي بالخلافة، فكذب وبهت وافتراء عظيم يلزم منه خطأ كبير، من تخوين الصحابة وممالأتهم بعده على ترك إنفاذ وصيته وإيصالها إلى من أوصى إليه، وصرفهم إياها إلى غيره، لا لمعنى ولا لسبب، وكل مؤمن بالله ورسوله يتحقق أن دين الإسلام هو الحق، يعلم بطلان هذا الافتراء، لأن الصحابة كانوا خير الخلق بعد الأنبياء، وهم خير قرون هذه الأمة، التي هي أشرف الأمم بنص القرآن، وإجماع السلف والخلف، في الدنيا والآخرة، ولله الحمد‏.‏

وما قد يقصه بعض القصاص من العوام وغيرهم في الأسواق وغيرها من الوصية لعلي في الآداب والأخلاق في المأكل والمشرب والملبس، مثل ما يقولون‏:‏ يا علي لا تعتم وأنت قاعد، يا علي لا تلبس سراويلك وأنت قائم، يا علي لا تمسك عضادتي الباب، ولا تجلس على أسكفة الباب، ولا تخيط ثوبك وهو عليك، ونحو ذلك، كل ذلك من الهذيانات فلا أصل لشيء منه، بل هو اختلاق بعض السفلة الجهلة، ولا يعول على ذلك ويغتر به إلا غبي عيي‏.‏

ثم لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم كان علي من جملة من غسله وكفنه وولي دفنه كما تقدم ذلك مفصلاً ولله الحمد والمنة‏.‏

وسيأتي في باب فضائله ذكر تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم له من فاطمة بعد وقعة بدر فولد له منها حسن وحسين ومحسن كما قدمنا‏.‏

وقد وردت أحاديث في ذلك لا يصح شيء منها بل أكثرها من وضع الروافض والقصاص‏.‏

ولما بويع الصديق يوم السقيفة كان علي من جملة من بايع بالمسجد كما قدمنا‏.‏

وكان بين يدي الصديق كغيره من أمراء الصحابة يرى طاعته فرضاً عليه، وأحب الأشياء إليه، ولما توفيت فاطمة - بعد ستة أشهر - وكانت قد تغضبت بعض الشيء على أبي بكر بسبب الميراث الذي فاتها من أبيها عليه السلام، ولم تكن اطلعت على النص المختص بالأنبياء وأنهم لا يورثون، فلما بلغها سألت أبا بكر أن يكون زوجها ناظراً على هذه الصدقة، فأبى ذلك عليها، فبقي في نفسها شيء كما قدمنا‏.‏

واحتاج علي أن يداريها بعض المداراة، فلما توفيت جدد البيعة مع الصديق رضي الله عنهما، فلما توفي أبو بكر وقام عمر في الخلافة بوصية أبي بكر إليه بذلك، كان علي من جملة من بايعه، وكان معه يشاوره في الأمور، ويقال‏:‏ إنه استقضاه في أيام خلافته، وقدم معه من جملة سادات أمراء الصحابة إلى الشام، وشهد خطبته بالجابية، فلما طعن عمر وجعل الأمر شورى في ستة أحدهم علي، ثم خلص منهم بعثمان وعلي كما قدمنا، فقدم عثمان على علي، فسمع وأطاع، فلما قتل عثمان يوم الجمعة لثمان عشرة خلت من ذي الحجة سنة خمسة وثلاثين على المشهور‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 7/253‏)‏

عدل الناس إلى علي فبايعوه، قبل أن يدفن عثمان، وقيل بعد دفنه كما تقدم، وقد امتنع علي من إجابتهم إلى قبول الإمارة حتى تكرر قولهم له وفر منهم إلى حائط بني عمرو بن مبذول، وأغلق بابه فجاء الناس فطرقوا الباب وولجوا عليه، وجاؤوا معهم بطلحة والزبير، فقالوا له‏:‏ إن هذا الأمر لا يمكن بقاؤه بلا أمير، ولم يزالوا به حتى أجاب‏.‏

 ذكر بيعة علي رضي الله عنه بالخلافة

يقال‏:‏ أن أول من بايعه طلحة بيده اليمنى وكانت شلاء من يوم أحد - لما وقى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال بعض القوم‏:‏ والله إن هذا الأمر لا يتم، وخرج علي إلى المسجد فصعد المنبر وعليه إزار وعمامة خز ونعلاه في يده، توكأ على قوسه، فبايعه عامة الناس، وذلك يوم السبت التاسع عشر من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين‏.‏

ويقال‏:‏ إن طلحة والزبير إنما بايعاه بعد أن طلبهما وسألاه أن يؤمرهما على البصرة والكوفة‏.‏

فقال لهما‏:‏ بل تكونا عندي أستأنس بكما، ومن الناس من يزعم أنه لم يبايعه طائفة من الأنصار، منهم‏:‏ حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، ومسلمة بن مخلد، وأبو سعيد، ومحمد بن مسلمة، والنعمان بن بشير، وزيد بن ثابت، ورافع بن خديج، وفضالة بن عبيد، وكعب بن عجرة، ذكره ابن جرير من طريق المدائني، عن شيخ من بني هاشم، عن عبد الله بن الحسن‏.‏

قال المدائني‏:‏ حدثني من سمع الزهري يقول‏:‏ هرب قوم من المدينة إلى الشام ولم بايعوا علياً، ولم يبايعه قدامة بن مظعون، وعبد الله بن سلام، والمغيرة بن شعبة‏.‏

قلت‏:‏ وهرب مروان بن الحكم والوليد بن عقبة وآخرون إلى الشام‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ بايع الناس علياً بالمدينة، وتربص سبعة نفر لم يبايعوا، منهم ابن عمر، وسعد بن أبي وقاص، وصهيب، وزيد بن ثابت، ومحمد بن أبي مسلمة، وسلمة بن سلامة بن وقش، وأسامة بن زيد، ولم يتخلف أحد من الأنصار إلا بايع فيما نعلم‏.‏

وذكر سيف بن عمر، عن جماعة من شيوخه قالوا‏:‏ بقيت المدينة خمسة أيام بعد مقتل عثمان، وأميرها الغافقي بن حرب يلتمسون من يجيبهم إلى القيام بالأمر‏.‏

والمصريون يلحون على علي وهو يهرب منهم إلى الحيطان، ويطلب الكوفيون الزبير فلا يجدونه، والبصريون يطلبون طلحة فلا يجيبهم، فقالوا‏:‏ فيما بينهم لا نولي أحداً من هؤلاء الثلاثة، فمضوا إلى سعد بن أبي وقاص، فقالوا‏:‏ إنك من أهل الشورى فلم يقبل منهم، ثم راحوا إلى ابن عمر فأبى عليهم، فحاروا في أمرهم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/254‏)‏

ثم قالوا‏:‏ إن نحن رجعنا إلى أمصارنا بقتل عثمان من غير إمرة اختلف الناس في أمرهم ولم نسلم، فرجعوا إلى علي فألحوا عليه، وأخذ الأشتر بيده فبايعه وبايعه الناس، وأهل الكوفة يقولون‏:‏ أول من بايعه الأشتر النخعي وذلك يوم الخميس الرابع والعشرون من ذي الحجة، وذلك بعد مراجعة الناس لهم في ذلك، وكلهم يقول‏:‏ لا يصلح لها إلا علي، فلما كان يوم الجمعة وصعد علي المنبر بايعه من لم يبايعه بالأمس، وكان أول من بايعه طلحة بيده الشلاء، فقال قائل‏:‏ إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم الزبير، ثم قال الزبير‏:‏ إنما بايعت علياً واللج على عنقي والسلام، ثم راح إلى مكة فأقام أربعة أشهر، وكانت هذه البيعة يوم الجمعة لخمس بقين من ذي الحجة، وكان أول خطبة خطبها أنه حمد الله وأثنى عليه، ثم قال‏:‏ إن الله تعالى أنزل كتاباً هادياً بين فيه الخير والشر، فخذوا بالخير ودعوا الشر، إن الله حرم حرماً غير مجهولة، وفضل حرمة المسلم على الحرم كلها، وشد بالإخلاص والتوحيد حقوق المسلمين، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده إلا بالحق، لا يحل لمسلم أذى مسلم إلا بما يجب، بادروا أمر العامة، وخاصةُ أحدكم الموت، فإن الناس أمامكم، وإنما خلفكم الساعة تحدو بكم فتخففوا تلحقوا، فإنما ينتظر بالناس أخراهم، اتقوا الله عباده في عباده وبلاده‏.‏

فإنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم، ثم أطيعوا الله ولا تعصوه، وإذا رأيتم الخير فخذوا به، وإذا رأيتم الشر فدعوه ‏{‏وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 26‏]‏ الآية‏.‏

فلما فرغ من خطبته قال المصريون‏:‏

خذها إليك واحذرن أبا الحسن * إنما نُمِرُّ الأمر إمرار الرسن

صولة آساد كآساد السفن * بمشرفيات كغدران اللبن

ونطعن الملك بلين كالشطن * حتى يمرن على غير عنن

فقال علي مجيباً لهم‏:‏ ‏!‏

إن عجزت عجزة لا أعتذر * سوف أكيس بعدها وأستمر

أرفع من ذيلي ما كنت أجر * وأجمع الأمر الشتيت المنتشر

إن لم يشاغبني العجول المنتصر * أو يتركوني والسلاح يبتدر

وكان على الكوفة أبو موسى الأشعري على الصلاة وعلى الحرب القعقاع بن عمرو، وعلى الخراج جابر بن فلان المزني، وعلى البصرة عبد الله بن عامر، وعلى مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وقد تغلب عليه محمد بن أبي حذيفة، وعلى الشام معاوية بن أبي سفيان، ونوابه على حمص عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وعلى قنسرين حبيب بن سلمة، وعلى الأردن أبو الأعور، وعلى فلسطين حكيم بن علقمة، وعلى أذربيجان الأشعث بن قيس، وعلى قرقيسيا جرير بن عبد الله البجلي، وعلى حلوان عتيبة بن النهاس، وعلى قيسارية مالك بن حبيب، وعلى همذان حبيش‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 7/255‏)‏

هذا ما ذكره ابن جرير من نواب عثمان الذين توفي وهم نواب الأمصار، وكان على بيت المال عقبة بن عمرو، وعلى قضاء المدينة زيد بن ثابت، ولما قتل عثمان بن عفان خرج النعمان بن بشير ومعه قميص عثمان مضمخ بدمه، ومعه أصابع نائلة التي أصيبت حين حاجفت عنه بيدها، فقطعت مع بعض الكف فورد به على معاوية بالشام فوضعه معاوية على المنبر ليراه الناس، وعلق الأصابع في كم القميص، وندب الناس إلى الأخذ بهذا الثأر والدم وصاحبه، فتباكى الناس حول المنبر، وجعل القميص يرفع تارة ويوضع تارة، والناس يتباكون حوله سنة، وحث بعضهم بعضاً على الأخذ بثأره، واعتزل أكثر الناس النساء في هذا العام، وقام في الناس معاوية وجماعة من الصحابة معه يحرضون الناس على المطالبة بدم عثمان، ممن قتله من أولئك الخوارج‏.‏

منهم‏:‏ عبادة بن الصامت، وأبو الدرداء، وأبو أمامة، وعمرو بن عنبسة، وغيرهم من الصحابة‏.‏

ومن التابعين‏:‏ شريك بن حباشة، وأبو مسلم الخولاني، وعبد الرحمن بن غنم، وغيرهم من التابعين‏.‏

ولما استقر أمر بيعة علي دخل عليه طلحة والزبير ورؤس الصحابة رضي الله عنهم، وطلبوا منه إقامة الحدود والأخذ بدم عثمان، فاعتذر إليهم بأن هؤلاء لهم مدد وأعوان، وأنه لا يمكنه ذلك يومه هذا، فطلب منه الزبير أن يوليه إمرة الكوفة ليأتيه بالجنود، وطلب منه طلحة أن يوليه إمرة البصرة ليأتيه منها بالجنود ليقوى بهم على شوكة هؤلاء الخوارج، وجهلة الأعراب الذين كانوا معهم في قتل عثمان رضي الله عنه، فقال لهما‏:‏ مهلاً علي، حتى أنظر في هذا الأمر‏.‏

ودخل عليه المغيرة بن شعبة على إثر ذلك فقال له‏:‏ إني أرى أن تقر عمالك على البلاد، فإذا أتتك طاعتهم استبدلت بعد ذلك بمن شئت وتركت من شئت، ثم جاءه من الغد فقال له‏:‏ إني أرى أن تعزلهم لتعلم من يطيعك ممن يعصيك، فعرض ذلك علي على ابن عباس فقال‏:‏ لقد نصحك بالأمس، وغشك اليوم، فبلغ ذلك المغيرة، فقال‏:‏ نعم نصحته، فلما لم يقبل غششته‏.‏

ثم خرج المغيرة فلحق بمكة، ولحقه جماعة منهم‏:‏ طلحة والزبير، وكانوا قد استأذنوا علياً في الاعتمار فأذن لهم‏.‏

ثم إن ابن عباس أشار على علي باستمرار نوابه في البلاد إلى أن يتمكن الأمر، وأن يقر معاوية خصوصاً على الشام وقال له‏:‏ إني أخشى إن عزلته عنها أن يطلبك بدم عثمان ولا آمن طلحة والزبير أن يتكلما عليك بسبب ذلك، فقال علي‏:‏ إني لا أرى هذا، ولكن اذهب أنت إلى الشام فقد وليتكها‏.‏

فقال ابن عباس لعلي‏:‏ إني أخشى من معاوية أن يقتلني بعثمان، أو يحبسني لقرابتي منك ولكن اكتب معي إلى معاوية فمنه وعده‏.‏

فقال علي‏:‏ والله إن هذا ما لا يكون أبداً، فقال ابن عباس‏:‏ يا أمير المؤمنين الحرب خدعة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوالله لئن أطعتني لأوردنهم بعد صدرهم، ونهى ابن عباس علياً فيما أشار عليه أن يقبل من هؤلاء الذين يحسنون إليه الرحيل إلى العراق، ومفارقة المدينة، فأبى عليه ذلك كله، وطاوع أمر أولئك الأمراء من أولئك الخوارج من أهل الأمصار‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 7/256‏)‏

قال ابن جرير‏:‏ وفي هذه السنة قصد قسطنطين بن هرقل بلاد المسلمين في ألف مركب، فأرسل الله عليه قاصفاً من الريح فغرقه الله بحوله وقوته، ومن معه، ولم ينج منهم أحد إلا الملك في شرذمة قليلة من قومه، فلما دخل صقلية عملوا له حماماً فقتلوه فيه، وقالوا‏:‏ أنت قتلت رجالنا‏.‏

 ثم دخلت سنة ست وثلاثين من الهجرة

استهلت هذه السنة وقد تولى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الخلافة، وولي على الأمصار نواباً، فولى عبد الله بن عباس على اليمن، وولى سمرة بن جندب على البصرة، وعمارة بن شهاب على الكوفة، وقيس بن سعد بن عبادة على مصر، وعلى الشام سهل بن حنيف بدل معاوية فسار حتى بلغ تبوك فتلقه خيل معاوية فقالوا‏:‏ من أنت‏؟‏

فقال‏:‏ أمير‏.‏

قالوا‏:‏ على أي شيء‏؟‏

قال‏:‏ على الشام‏.‏

فقالوا‏:‏ إن كان عثمان بعثك فحي هلا بك، وإن كان غيره فارجع‏.‏

فقال‏:‏ أو ما سمعتم الذي كان‏؟‏

قالوا‏:‏ بلى‏.‏

فرجع إلى علي‏.‏

وأما قيس بن سعد فاختلف عليه أهل مصر فبايع له الجمهور، وقالت طائفة‏:‏ لا نبايع حتى نقتل قتلة عثمان، وكذلك أهل البصرة، وأما عمارة بن شهاب المبعوث أميراً على الكوفة فصده عنها طلحة بن خويلد غضباً لعثمان، فرجع إلى علي فأخبره وانتشرت الفتنة، وتفاقم الأمر، واختلفت الكلمة‏.‏

وكتب أبو موسى إلى علي بطاعة أهل الكوفة ومبايعتهم إلا القليل منهم، وبعث علي إلى معاوية كتباً كثيرة فلم يرد عليه جوابها، وتكرر ذلك مراراً إلى الشهر الثالث من مقتل عثمان في صفر، ثم بعث معاوية طوماراً مع رجل فدخل به على علي فقال‏:‏ ما وراءك‏؟‏

قال‏:‏ جئتك من عند قوم لا يريدون إلا القود كلهم موتور، تركت سبعين ألف شيخ يبكون تحت قميص عثمان، وهو على منبر دمشق‏.‏

فقال علي‏:‏ اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان، ثم خرج رسول معاوية من بين يدي علي فهم به أولئك الخوارج الذين قتلوا عثمان يريدون قتله، فما أفلت إلا بعد جهد‏.‏

وعزم علي رضي الله عنه على قتال أهل الشام، وكتب إلى قيس بن سعد بمصر يستنفر الناس لقتالهم‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 7/257‏)‏

وإلى أبي موسى بالكوفة، وبعث إلى عثمان بن حنيف بذلك، وخطب الناس فحثهم على ذلك‏.‏

وعزم على التجهز، وخرج من المدينة، واستخلف عليها قثم بن العباس، وهو عازم أن يقاتل بمن أطاعه من عصاه، وخرج عن أمره ولم يبايعه مع الناس، وجاء إليه ابنه الحسن بن علي، فقال‏:‏ يا أبتي دع هذا فإن فيه سفك دماء المسلمين، ووقوع الاختلاف بينهم، فلم يقبل منه ذلك، بل صمم على القتال، ورتب الجيش، فدفع اللواء إلى محمد بن الحنفية، وجعل ابن العباس على الميمنة، وعمرو بن أبي سلمة على الميسرة، وقيل‏:‏ جعل على الميسرة عمرو بن سفيان بن عبد الأسد، وجعل على مقدمته أبا ليلى بن عمرو بن الجراح بن أخي أبي عبيدة، واستخلف على المدينة قثم بن العباس ولم يبق شيء إلا أن يخرج من المدينة قاصداً إلى الشام، حتى جاءه ما شغله عن ذلك كله، وهو ما سنورده‏.‏

 ابتداء وقعة الجمل

لما وقع قتل عثمان بعد أيام التشريق، كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين قد خرجن إلى الحج في هذا العام فراراً من الفتنة، فلما بلغ الناس أن عثمان قد قتل، أقمن بمكة بعد ما خرجوا منها، ورجعوا إليها وأقاموا بها، وجعلوا ينتظرون ما يصنع الناس ويتجسسون الأخبار‏.‏

فلما بويع لعلي وصار حظ الناس عنده بحكم الحال وغلبة الرأي، لا عن اختيار منه لذلك رؤس أولئك الخوارج الذين قتلوا عثمان مع أن علياً في نفس الأمر يكرههم، ولكنه تربص بهم الدوائر، ويود لو تمكن منهم ليأخذ حق الله منهم، ولكن لما وقع الأمر هكذا واستحوذوا عليه، وحجبوا عنه علية الصحابة فر جماعة من بني أمية وغيرهم إلى مكة، واستأذنه طلحة والزبير في الاعتمار، فأذن لهما فخرجا إلى مكة، وتبعهم خلق كثير وجم غفير‏.‏

وكان علي لما عزم على قتال أهل الشام قد ندب أهل المدينة إلى الخروج معه فأبوا عليه، فطلب عبد الله بن عمر بن الخطاب وحرضه على الخروج معه‏.‏

فقال‏:‏ إنما أنا رجل من أهل المدينة، إن خرجوا خرجت على السمع والطاعة، ولكن لا أخرج للقتال في هذا العام، ثم تجهز ابن عمر وخرج إلى مكة، وقدم إلى مكة أيضاً في هذا العام يعلى بن أمية من اليمن - وكان عاملاً عليها لعثمان - ومعه ستمائة بعير وستمائة ألف درهم، وقدم لها عبد الله بن عامر من البصرة، وكان نائبها لعثمان، فاجتمع فيها خلق من سادات الصحابة وأمهات المؤمنين‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/258‏)‏

فقامت عائشة رضي الله عنها في الناس تخطبهم وتحثهم على القيام بطلب دم عثمان، وذكرت ما افتات به أولئك من قتله في بلد حرام وشهر حرام، ولم يراقبوا جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سفكوا الدماء وأخذوا الأموال، فاستجاب الناس لها، وطاوعوها على ما تراه من الأمر بالمصلحة، وقالوا لها‏:‏ حيثما ما سرت سرنا معك‏.‏

فقال قائل‏:‏ نذهب إلى الشام‏.‏

فقال بعضهم‏:‏ إن معاوية قد كفاكم أمرها، ولو قدموها لغلبوا، واجتمع الأمر كله لهم، لأن أكابر الصحابة معهم‏.‏

وقال آخرون‏:‏ نذهب إلى المدينة فنطلب من علي أن يسلم إلينا قتلة عثمان فيقتلوا‏.‏

وقال آخرون‏:‏ بل نذهب إلى البصرة فنتقوى من هنالك بالخيل والرجال، ونبدأ بمن هناك من قتلة عثمان‏.‏

فاتفق الرأي على ذلك، وكان بقية أمهات المؤمنين قد وافقن عائشة على المسير إلى المدينة‏.‏

فلما اتفق الناس على المسير إلى البصرة رجعن عن ذلك، وقلن لا نسير إلى غير المدينة، وجهز الناس يعلى بن أمية فأنفق فيهم ستمائة بعير وستمائة ألف درهم وجهزهم ابن عامر أيضاً بمال كثير‏.‏

وكانت حفصة بنت عمر أم المؤمنين قد وافقت عائشة على المسير إلى البصرة، فمنعها أخوها عبد الله من ذلك، وأبى هو أن يسير معهم إلى غير المدينة، وسار الناس صحبة عائشة في ألف فارس‏.‏

وقيل‏:‏ تسعمائة فارس من أهل المدينة ومكة، وتلاحق بهم آخرون، فصاروا في ثلاثة آلاف، وأم المؤمنين عائشة تحمل في هودج على جمل اسمه عسكر اشتراه يعلى بن أمية من رجل من عرينة بمائتي دينار، وقيل‏:‏ بثمانين ديناراً، وقيل‏:‏ غير ذلك‏.‏

وسار معها أمهات المؤمنين إلى ذات عرق ففارقنها هنالك وبكين للوداع، وتباكى الناس، وكان ذلك اليوم يسمى يوم النحيب‏.‏

وسار الناس قاصدين البصرة، وكان الذي يصلي بالناس عن أمر عائشة ابن أختها عبد الله بن الزبير، ومروان بن الحكم يؤذن للناس في أوقات الصلوات، وقد مروا في مسيرهم ليلاً بماء يقال له الحوأب فنبحتهم كلاب عنده، فلما سمعت ذلك عائشة قالت‏:‏ ما اسم هذا المكان‏؟‏

قالوا‏:‏ الحوأب، فضربت بإحدى يديها على الأخرى، وقالت‏:‏ إنا لله وإنا إليه راجعون ما أظنني إلا راجعة‏.‏

قالوا‏:‏ ولم‏؟‏

قالت‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ لنسائه‏:‏ ‏(‏‏(‏ليت شعري أيتكن التي تنبحها كلاب الحوأب‏)‏‏)‏‏.‏

ثم ضربت عضد بعيرها فأناخته، وقالت‏:‏ ردوني ردوني أنا والله صاحبة ماء الحوأب‏.‏

وقد أوردنا هذا الحديث بطرقه وألفاظه في ‏(‏دلائل النبوة‏)‏ كما سبق، فأناخ الناس حولها يوماً وليلة‏.‏

وقال لها عبد الله بن الزبير‏:‏ إن الذي أخبرك أن هذا ماء الحوأب قد كذب، ثم قال الناس‏:‏ النجا النجا، هذا جيش علي بن أبي طالب قد أقبل، فارتحلوا نحو البصرة، فلما اقتربت من البصرة، كتبت إلى الأحنف بن قيس وغيره من رؤوس الناس‏:‏ أنها قد قدمت، فبعث عثمان بن حنيف عمران بن حصين وأبا الأسود الدؤلي إليها ليعلما ما جاءت له، فلما قدما عليها سلما عليها واستعلما منها ما جاءت له، فذكرت لهما ما الذي جاءت له من القيام بطلب دم عثمان، لأنه قتل مظلوماً في شهر حرام وبلد حرام‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/259‏)‏

وتلت قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 114‏]‏ فخرجا من عندها فجاءا إلى طلحة، فقالا له‏:‏ ما أقدمك‏؟‏

فقال‏:‏ الطلب بدم عثمان‏.‏

فقالا‏:‏ ما بايعت علياً‏؟‏

قال‏:‏ بلى والسيف على عنقي، ولا أستقبله إن هو لم يخل بيننا وبين قتلة عثمان‏.‏

فذهبا إلى الزبير فقال‏:‏ مثل ذلك‏.‏

قال‏:‏ فرجع عمران وأبو الأسود إلى عثمان بن حنيف، فقال أبو الأسود‏:‏

يا ابن الأحنف قد أتيت فانفر * وطاعن القوم وجالد واصبر واخرج لهم مستلثماً وشمر *

فقال عثمان بن حنيف‏:‏ إنا لله وإنا إليه راجعون دارت رحا الإسلام ورب الكعبة، فانظروا بأي زيفان نزيف‏.‏

فقال عمران‏:‏ إي والله لتعركنكم عركاً طويلاً، يشير عثمان بن حنيف إلى حديث ابن مسعود مرفوعاً‏:‏ ‏(‏‏(‏تدور رحا الإسلام لخمس وثلاثين‏)‏‏)‏ الحديث كما تقدم‏.‏

ثم قال عثمان بن حنيف لعمران بن حصين‏:‏ أشر علي‏.‏

فقال‏:‏ اعتزل، فإني قاعد في منزلي، أو قال قاعد على بعيري فذهب، فقال عثمان‏:‏ بل أمنعهم حتى يأتي أمير المؤمنين، فنادى في الناس يأمرهم بلبس السلاح، والاجتماع في المسجد فاجتمعوا، فأمرهم بالتجهز، فقام رجل وعثمان على المنبر فقال‏:‏

أيها الناس، إن كان هؤلاء القوم جاؤوا خائفين فقد جاؤوا من بلد يأمن فيه الطير، وإن كانوا جاؤوا يطلبون بدم عثمان فما نحن بقتلته، فأطيعوني وردوهم من حيث جاؤوا‏.‏

فقام الأسود بن سريع السعدي فقال‏:‏ إنما جاؤوا يستعينون بنا على قتلة عثمان منا ومن غيرنا، فحصبه الناس، فعلم عثمان بن حنيف أن لقتلة عثمان بالبصرة أنصاراً، فكره ذلك، وقدمت أم المؤمنين بمن معها من الناس، فنزلوا المربد من أعلاه قريباً من البصرة، وخرج إليها من أهل البصرة من أراد أن يكون معها، وخرج عثمان بن حنيف بالجيش فاجتمعوا بالمربد، فتكلم طلحة - وكان على الميمنة - فندب إلى الأخذ بثأر عثمان، والطلب بدمه، وتابعه الزبير فتكلم بمثل مقالته فرد عليهما ناس من جيش عثمان بن حنيف، وتكلمت أم المؤمنين فحرضت وحثت على القتال، فتناور طوائف من أطراف الجيش فتراموا بالحجارة‏.‏

ثم تحاجز الناس ورجع كل فريق إلى حوزته، وقد صارت طائفة من جيش عثمان بن حنيف إلى جيش عائشة فكثروا، وجاء حارثة بن قدامة السعدي فقال‏:‏ يا أم المؤمنين‏!‏ والله لقتل عثمان أهون من خروجك من بيتك على هذا الجمل عرضة للسلاح، إن كنت أتيتينا طائعة فارجعي من حيث جئت إلى منزلك، وإن كنت أتيتينا مكرهة، فاستعيني بالناس في الرجوع‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 7/260‏)‏

وأقبل حكيم بن جبلة - وكان على خيل عثمان بن حنيف - فأنشب القتال وجعل أصحاب أم المؤمنين يكفون أيديهم ويمتنعون من القتال، وجعل حكيم يقتحم عليهم فاقتتلوا على فم السكة‏.‏

وأمرت عائشة أصحابها فتيامنوا حتى انتهوا إلى مقبرة بني مازن، وحجز الليل بينهم، فلما كان اليوم الثاني قصدوا للقتال، فاقتتلوا قتالاً شديداً، إلى أن زال النهار، وقتل خلقٌ كثير من أصحاب ابن حنيف، وكثرت الجراح في الفريقين، فلما عضتهم الحرب تداعوا إلى الصلح على أن يكتبوا بينهم كتاباً، ويبعثوا رسولاً إلى أهل المدينة يسأل أهلها، إن كان طلحة والزبير أكرها على البيعة‏.‏

خرج عثمان بن حنيف عن البصرة وأخلاها، وإن لم يكونا أكرها على البيعة خرج طلحة والزبير عنها وأخلوها لهم، وبعثوا بذلك كعب بن سور القاضي، فقدم المدينة يوم الجمعة، فقام في الناس فسألهم‏:‏

هل بايع طلحة والزبير طائعين أو مكرهين‏؟‏ فسكت الناس فلم يتكلم إلا أسامة بن زيد‏.‏

فقال‏:‏ بل كانا مكرهين، فثار إليه بعض الناس، فأرادوا ضربه فحاجف دونه صهيب، وأبو أيوب، وجماعة حتى خلصوه، وقالوا له‏:‏ ما وسعك ما وسعنا من السكوت ‏؟‏‏.‏

فقال‏:‏ لا والله ما كنت أرى أن الأمر ينتهي إلى هذا، وكتب علي إلى عثمان بن حنيف، يقول له‏:‏ إنهما لم يكرها على فرقة، ولقد أكُرها على جماعة وفضل، فإن كانا يريدان الخلع فلا عذر لهما، وإن كانا يريدان غير ذلك نظرا ونظرنا، وقد كعب بن سور على عثمان بكتاب علي، فقال عثمان‏:‏ هذا أمر آخر غير ما كنا فيه‏.‏

وبعث طلحة والزبير إلى عثمان بن حنيف أن يخرج إليهما فأبى، فجمعا الرجال في ليلة مظلمة وشهدا بهم صلاة العشاء في المسجد الجامع، ولم يخرج عثمان بن حنيف تلك الليلة، فصلى بالناس عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد، ووقع من رعاع الناس من أهل البصرة كلام وضرب، فقُتل منهم نحواً من أربعين رجلاً، ودخل الناس على عثمان بن حنيف قصره فأخرجوه إلى طلحة والزبير، ولم يبق في وجهه شعرة إلا نتفوها، فاستعظما ذلك‏.‏

وبعثا إلى عائشة، فأعلماها الخبر، فأمرت أن تخلي سبيله فأطلقوه، وولوا على بيت المال عبد الرحمن بن أبي بكر، وقسم طلحة والزبير أموال بيت المال في الناس، وفضلوا أهل الطاعة وأكب عليهم الناس يأخذون أرزاقهم وأخذوا الحرس، واستبدوا في الأمر بالبصرة، فحمى لذلك جماعة من قوم قتلة عثمان وأنصارهم‏.‏

فركبوا في جيش قريب من ثلاثمائة، ومقدمهم حكيم بن جبلة، وهو أحد من باشر قتل عثمان، فبارزوا وقاتلوا، فضرب رَجل رجل حكيم بن جبلة فقطعها فزحف حتى أخذها وضرب بها ضاربه فقتله، ثم اتكأ عليه، وجعل يقول‏:‏

يا ساق لن تراعي * إن لك ذراعي

أحمى بها كراعي

وقال أيضاً‏:‏

ليس على أن أموت عار * والعار في الناس هو الفرارُ

والمجد لا يفضحه الدمار

‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 261‏)‏

فمر عليه رجل وهو متكئ برأسه على ذلك الرجل، فقال له‏:‏ من قتلك‏؟‏

فقال له‏:‏ وسادتي‏.‏

ثم مات حكيم قتيلاً، هو ونحواً من سبعين من قتلة عثمان، وأنصارهم أهل المدينة، فضعف جأش من خالف طلحة والزبير من أهل البصرة‏.‏

ويقال‏:‏ إن أهل البصرة بايعوا طلحة والزبير، وندب الزبير ألف فارس يأخذها معه ويلتقي بها علياً قبل أن يجيء فلم يجبه أحد، وكتبوا بذلك إلى أهل الشام يبشرونهم بذلك، وقد كانت هذه الوقعة لخمس ليال يقين من ربيع الآخرة سنة ست وثلاثين‏.‏

وقد كتبت عائشة إلى زيد بن صوحان تدعوه إلى نصرتها والقيام معها، فإن لم يجيء فليكف يده، وليلزم منزله، أي‏:‏ لا يكون عليها ولا لها، فقال‏:‏ أنا في نصرتك ما دمت في منزلك، وأبى أن يطيعها في ذلك‏.‏

وقال‏:‏ رحم الله أم المؤمنين، أمرها الله أن تلزم بيتها، وأمرنا أن نقاتل، فخرجت من منزلها، وأمرتنا بلزوم بيوتنا التي كانت هي أحق بذلك منا‏.‏

وكتبت عائشة إلى أهل اليمامة والكوفة بمثل ذلك‏.‏

 مسير علي بن أبي طالب من المدينة إلى البصرة بدلاً من الشام

بعد أن كان قد تجهز قاصداً الشام كما ذكرنا، فلما بلغه قصد طلحة والزبير البصرة، خطب الناس وحثهم على المسير إلى البصرة ليمنع أولئك من دخولها إن أمكن، أو يطردهم عنها إن كانوا قد دخلوها، فتثاقل عنه أكثر أهل المدينة، واستجاب له بعضهم‏.‏

قال الشعبي‏:‏ مما نهض معه في هذا الأمر غير ستة نفر من البدريين ليس لهم سابع، وقال غيره‏:‏ أربعة‏.‏

وذكر ابن جرير وغيره قال‏:‏ كان ممن استجاب له من كبار الصحابة‏:‏ أبو الهيثم بن التيهان، وأبو قتادة الأنصاري، وزياد بن حنظلة، وخزيمة بن ثابت‏.‏

قالوا‏:‏ وليس بذي الشهادتين، ذاك مات في زمن عثمان رضي الله عنه‏.‏

وسار على من المدينة نحو البصرة على تعبئته المتقدم ذكرها، غير أنه استخلف على المدينة تمام بن عباس وعلى مكة قثم بن عباس، وذلك في آخر شهر ربيع الآخر سنة ست وثلاثين‏.‏

وخرج علي من المدينة في نحو من تسعمائة مقاتل، وقد لقي عبد الله بن سلام رضي الله عنه علياً وهو بالربذة فأخذ بعنان فرسه‏.‏

وقال‏:‏ يا أمير المؤمنين، لا تخرج منها فوالله لئن خرجت منها لا يعود إليها سلطان المسلمين أبداً، فسبه بعض الناس‏.‏

فقال علي‏:‏ دعوه فنعم الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء الحسن بن علي إلى أبيه في الطريق‏.‏

فقال‏:‏ لقد نهيتك فعصيتني تقتل غداً بمضيعة لا ناصر لك‏.‏

فقال له علي‏:‏ إنك لا تزال تحن على حنين الجارية، وما الذي نهيتني عنه فعصيتك ‏؟‏‏.‏

فقال‏:‏ ألم آمرك قبل مقتل عثمان أن تخرج منها لئلا يقتل وأنت بها، فيقول قائل‏:‏ أو يتحدث متحدث، ألم آمرك أن لا تبايع الناس بعد قتل عثمان حتى يبعث إليك أهل كل مصر ببيعتهم‏؟‏ وأمرتك حين خرجت هذه المرأة وهذان الرجلان أن تجلس في بيتك حتى يصطلحوا فعصيتني في ذلك كله ‏؟‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 262‏)‏

فقال له علي‏:‏ أما قولك أن أخرج قبل مقتل عثمان، فلقد أحيط بنا كما أحيط به، وأما مبايعتي قبل مجيء بيعة الأمصار، فكرهت أن يضيع هذا الأمر، وأما أن أجلس وقد ذهب هؤلاء إلى ما ذهبوا إليه، فتريد مني أن أكون كالضبع التي يحاط بها، ويقال‏:‏ ليست هاهنا حتى يشق عرقوبها فتخرج، فإذا لم أنظر فيما يلزمني في هذا الأمر ويعنيني، فمن ينظر فيه‏؟‏ فكف عني يا بني‏.‏

ولما انتهى إليه خبر ما صنع القوم بالبصرة من الأمر الذي قدمنا، كتب إلى أهل الكوفة مع محمد بن أبي بكر، ومحمد بن جعفر‏:‏ إني قد اخترتكم على الأمصار، فرغبت إليكم وفزغت لما حدث، فكونوا لدين الله أعواناً وأنصاراً، وأيدونا وانهضوا إلينا، فالإصلاح نريد لتعود هذه الأمة إخواناً‏.‏

فمضيا، وأرسل إلى المدينة فأخذ ما أراد من سلاح ودواب، وقام في الناس خطيباً، فقال‏:‏

إن الله أعزنا بالإسلام ورفعنا به، وجعلنا به إخواناً، بعد ذلة وقلة وتباغض وتباعد، فجرى الناس على ذلك ما شاء الله، الإسلام دينهم، والحق قائم بينهم، والكتاب إمامهم، حتى أصيب هذا الرجل بأيدي هؤلاء القوم الذين نزغهم الشيطان لينزغ بين هذه الأمة، ألا وإن هذه الأمة لا بد مفترقة كما افترقت الأمم قبلها، فنعوذ بالله من شر ما هو كائن‏.‏

ثم عاد ثانية فقال‏:‏ إنه لا بد مما هو كائن أن يكون، ألا وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، شرها فرقة تحبني ولا تعمل بعملي، وقد أدركتم ورأيتم فالزموا دينكم، واهتدوا بهديي فإنه هدى نبيكم، واتبعوا سنته وأعرضوا عما أشكل عليكم حتى تعرضوه الكتاب، فما عرفه القرآن فالزموه، وما أنكره فردوه، وارضوا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً، وبالقرآن حكماً وإماماً‏.‏

قال‏:‏ فلما عزم على المسير من الربذة قام إليه ابن أبي رفاعة بن رافع فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين، أي شيء تريد‏؟‏ وأين تذهب بنا ‏؟‏‏.‏

فقال‏:‏ أما الذي نريد وننوي، فالإصلاح إن قبلوا منا وأجابوا إليه‏.‏

قال‏:‏ فإن لم يجيبوا إليه ‏؟‏‏.‏

قال‏:‏ ندعهم بغدرهم ونعطيهم الحق ونصبر‏.‏

قال‏:‏ فإن لم يرضوا ‏؟‏‏.‏

قال‏:‏ ندعهم ما تركونا‏.‏

قال‏:‏ فإن لم يتركونا ‏؟‏‏.‏

قال‏:‏ امتنعنا منهم‏.‏

قال‏:‏ فنعم إذا‏.‏

فقام إليه الحجاج بن غزية الأنصاري‏.‏

فقال‏:‏ لأرضينك بالفعل كما أرضيتني بالقول، والله لينصرني الله كما سمانا أنصاراً‏.‏

قال‏:‏ وأتت جماعة من طيء، وعلي الربذة‏.‏

فقيل له‏:‏ هؤلاء جماعة جاؤوا من طيء منهم من يريد الخروج معك ومنهم من يريد السلام عليك‏.‏

فقال‏:‏ جزى الله كلاً خيراً، ‏{‏وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 95‏]‏‏.‏

قالوا‏:‏ فسار علي من الربذة على تعبئته، وهو راكب ناقة حمراء يقود فرساً كميتاً، فلما كان بفيد جاءه جماعة من أسد وطيء، فعرضوا أنفسهم عليه‏.‏

فقال‏:‏ فيمن معي كفاية، وجاء رجل من أهل الكوفة يقال له‏:‏ عامر بن مطر الشيباني‏.‏

فقال له علي‏:‏ ما وراءك ‏؟‏‏.‏

فأخبره الخبر، فسأله عن أبي موسى، فقال‏:‏ إن أردت الصلح فأبو موسى صاحبه، وإن أردت القتال فليس بصاحبه‏.‏

فقال علي‏:‏ والله ما أريد إلا الصلح ممن تمرد علينا، وسار‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 263‏)‏

فلما اقترب من الكوفة وجاءه الخبر بما وقع من الأمر على جليته، من قتل ومن إخراج عثمان بن حنيف من البصرة وأخذهم أموال بيت المال، جعل يقول‏:‏ اللهم عافني مما ابتليت به طلحة والزبير‏.‏

فلما انتهى إلى ذي قار أتاه عثمان بن حنيف مهشماً وليس في وجهه شعرة‏.‏

فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين، بعثتني إلى البصرة، وأنا ذو لحية، وقد جئتك أمرداً‏.‏

فقال‏:‏ أصبت خيراً وأجراً‏.‏

وقال عن طلحة والزبير‏:‏ اللهم احلل ما عقدا، ولا تبرم ما أحكما في أنفسهما، وأرهما المساءة فيما قد عملاً - يعني‏:‏ في هذا الأمر - وأقام علي بذي قار ينتظر جواب ما كتب به مع محمد بن أبي بكر، وصاحبه محمد بن جعفر - وكانا قد قدما بكتابه على أبي موسى وقاما في الناس بأمره - فلم يجابا في شيء‏.‏

فلما أمسوا دخل أناس من ذوي الحجبى على أبي موسى يعرضون عليه الطاعة لعلي، فقال‏:‏ كان هذا بالأمس فغضب محمد ومحمد فقالا له قولاً غليظاً‏.‏

فقال لهما‏:‏ والله إن بيعة عثمان لفي عنقي وعنق صاحبكما، فإن لم يكن بد من قتال فلا نقاتل أحداً حتى نفرغ من قتلة عثمان حيث كانوا ومن كانوا، فانطلقا إلى علي فأخبراه الخبر وهو بذي قار، فقال للأشتر‏:‏

أنت صاحب أبي موسى، والمعرض في كل شيء، فاذهب أنت وابن عباس فأصلح ما أفسدت، فخرجا فقدما الكوفة وكلما أبا موسى واستعانا عليه بنفر من الكوفة، فقام في الناس‏.‏

فقال‏:‏ أيها الناس، إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الذين صحبوه أعلم بالله ورسوله ممن لم يصحبه، وإن لكم علينا حقاً وأنا مؤد إليكم نصيحة، كان الرأي أن لا تستخفا بسلطان الله وأن لا تجترئوا على أمره‏.‏

وهذه فتنة النائم فيها خير من اليقظان، واليقظان خير من القاعد، والقاعد خير من القائم، والقائم خير من الراكب، والراكب خير من الساعي، فاغمدوا السيوف وانصلوا الأسنة، واقطعوا الأوتار، وأووا المضطهد والمظلوم حتى يلتئم هذا الأمر، وتنجلي هذه الفتنة‏.‏

فرجع ابن عباس والأشتر إلى علي، فأخبراه الخبر، فأرسل الحسن وعمار بن ياسر، وقال لعمار‏:‏ انطلق فأصلح ما أفسدت فانطلقا حتى دخلا المسجد، فكان أول من سلم عليهما مسروق بن الأجدع‏.‏

فقال لعمار‏:‏ علام قتلتم عثمان‏؟‏

فقال‏:‏ على شتم أعراضنا، وضرب أبشارنا‏.‏

فقال‏:‏ والله ما عاقبتم بمثل ما عوقبتم به، ولو صبرتم لكان خيراً للصابرين‏.‏

قال‏:‏ وخرج أبو موسى، فلقي الحسن بن علي فضمه إليه، وقال لعمار‏:‏ يا أبا اليقظان، أعدوت على أمير المؤمنين عثمان قتلته ‏؟‏‏.‏

فقال‏:‏ لم أفعل، ولم يسؤني ذلك، فقطع عليهما الحسن بن علي‏.‏

فقال لأبي موسى‏:‏ لم تثبط الناس عنا، فوالله ما أردنا إلا الإصلاح، ولا مثل أمير المؤمنين يخاف على شيء‏.‏

فقال‏:‏ صدقت بأبي وأمي، ولكن المستشار مؤتمن، سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏إنها ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الراكب‏)‏‏)‏ وقد جعلنا الله إخواناً، وحرم علينا دماءنا وأموالنا‏.‏

فغضب عمار وسبه، وقال‏:‏ يا أيها الناس، إنما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده أنت فيها قاعداً خير منك قائماً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 264‏)‏

فغضب رجل من بني تميم لأبي موسى ونال من عمار، وثار آخرون وجعل أبو موسى يكفكف الناس، وكثر اللغط، وارتفعت الأصوات، وقال أبو موسى‏:‏

أيها الناس أطيعوني، وكونوا خير قوم من خير أمم العرب، يأوي إليهم المظلوم، ويأمن فيهم الخائف، وإن الفتنة إذا أقبلت شبهت، وإذ أدبرت تبينت، ثم أمر الناس بكف أيديهم، ولزوم بيوتهم‏.‏

فقام زيد بن صوحان فقال‏:‏ أيها الناس، سيروا إلى أمير المؤمنين، وسيد المسلمين، سيروا إليه أجمعون‏.‏

فقام القعقاع بن عمرو فقال‏:‏ إن الحق ما قاله الأمير، ولكن لا بد للناس من أمير يردع الظالم، ويعدي المظلوم، وينتظم به شمل الناس، وأمير المؤمنين علي وليَ بما وليَ وقد أنصف بالدعاء، وإنما يريد الإصلاح، فانفروا إليه‏.‏

وقام عبد خير، فقال‏:‏ الناس أربع فرق، علي بمن معه في ظاهر الكوفة، وطلحة، والزبير بالبصرة، ومعاوية بالشام، وفرقه بالحجاز لا تقاتل ولا عناء بها‏.‏

فقال أبو موسى‏:‏ أولئك خير الفرق، وهذه فتنة‏.‏

ثم تراسل الناس في الكلام ثم قام عمار، والحسن بن علي في الناس علي المنبر يدعوان الناس إلى النفير إلى أمير المؤمنين، فإنه إنما يريد الإصلاح بين الناس‏.‏

وسمع عمار رجلاً يسب عائشة فقال‏:‏ اسكت مقبوحاً منبوحاً، والله إنها لزوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلاكم بها ليعلم أتطيعوه أو إياها، رواه البخاري‏.‏

وقام حجر بن عدي فقال‏:‏ أيها الناس، سيروا إلى أمير المؤمنين‏:‏ ‏{‏انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 41‏]‏ وجعل الناس كلما قام رجل فحرض الناس على النفير يثبطهم أبو موسى من فوق المنبر، وعمار، والحسن معه على المنبر، حتى قال له الحسن بن علي‏:‏ ويحك‏!‏ اعتزلنا لا أم لك، ودع منبرنا‏.‏

ويقال‏:‏ إن علياً بعث الأشتر فعزل أبا موسى عن الكوفة، وأخرجه من قصر الإمارة من تلك الليلة، واستجاب الناس للنفير، فخرج مع الحسن تسعة آلاف في البر، وفي دجلة‏.‏

ويقال‏:‏ سار معه اثني عشر ألف رجل ورجل واحد، وقدموا على أمير المؤمنين فتلقاهم بذي قار إلى أثناء الطريق في جماعة، منهم‏:‏ ابن عباس فرحب بهم، وقال‏:‏

يا أهل الكوفة‏!‏ أنتم لقيتم ملوك العجم ففضضتم جموعهم، وقد دعوتكم لتشهدوا معنا إخواننا من أهل البصرة، فإن يرجعوا فذاك الذي نريده، وإن أبوا داويناهم بالرفق حتى يبدأونا بالظلم، ولم ندع أمراً فيه صلاح إلا آثرناه على ما فيه الفساد إن شاء الله تعالى‏.‏

فاجتمعوا عنده بذي قار، وكان من المشهورين من رؤساء من انضاف إلى علي‏:‏ القعقاع بن عمرو، وسعد بن مالك، وهند بن عمرو، والهيثم بن شهاب، وزيد بن صوحان، والأشتر، وعدي بن حاتم، والمسيب بن نجية، ويزيد بن قيس، وحجر بن عدي وأمثالهم‏.‏

وكانت عبد القيس بكمالها بين علي وبين البصرة ينتظرونه وهم ألوف، فبعث علي القعقاع رسولاً إلى طلحة والزبير بالبصرة يدعوهما إلى الألفة والجماعة، ويعظم عليهما الفرقة والاختلاف‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 265‏)‏

فذهب القعقاع إلى البصرة فبدأ بعائشة أم المؤمنين فقال‏:‏ أي أماه‏!‏ ما أقدمك هذا البلد‏؟‏

فقالت‏:‏ أي بني‏!‏ الإصلاح بين الناس‏.‏

فسألها أن تبعث إلى طلحة والزبير ليحضرا عندها فحضرا، فقال القعقاع‏:‏ إني سألت أم المؤمنين ما أقدمها‏؟‏ فقالت‏:‏ إنما جئت للإصلاح بين الناس‏.‏

فقالا‏:‏ ونحن كذلك‏.‏

قال‏:‏ فأخبراني ما وجه هذا الإصلاح‏؟‏ وعلى أي شيء يكون‏؟‏ فوالله لئن عرفناه لنصطلحن، ولئن أنكرناه لا نصطلحن‏.‏

قالا‏:‏ قتلة عثمان، فإن هذا إن ترك كان تركاً للقرآن‏.‏

فقال‏:‏ قتلتما قتلته من أهل البصرة، وأنتما قبل قتلهم أقرب منكم إلى الاستقامة منكم اليوم، قتلتم ستمائة رجل فغضب لهم ستة آلاف فاعتزلوكم، وخرجوا من بين أظهركم‏.‏

وطلبتم حرقوص بن زهير فمنعه ستة آلاف فإن تركتموهم وقعتم فيما تقولون، وإن قاتلتموهم فأديلوا عليكم كان الذي حذرتم، وفرقتم من هذا الأمر أعظم مما أراكم تدفعون وتجمعون منه - يعني‏:‏ أن الذي تريدونه من قتل قتلة عثمان مصلحة، ولكنه يترتب عليه مفسدة هي أربى منها - وكما أنكم عجزتم عن الأخذ بثأر عثمان من حرقوص بن زهير، لقيام ستة آلاف في منعه ممن يريد قتله، فعلي أعذر في تركه الآن قتل قتلة عثمان، وإنما أخر قتل قتلة عثمان إلى أن يتمكن منهم فإن الكلمة في جميع الأمصار مختلفة، ثم أعلمهم أن خلقاً من ربيعة ومضر قد اجتمعوا لحربهم بسبب هذا الأمر الذي وقع‏.‏

فقالت له عائشة أم المؤمنين‏:‏ فماذا تقول أنت‏؟‏

قال‏:‏ أقول‏:‏ إن هذا الأمر الذي وقع دواؤه التسكين، فإذا سكن اختلجوا، فإن أنتم بايعتمونا فعلامة خير، وتباشير رحمة، وإدراك الثأر، وإن أنتم أبيتم إلا مكابرة هذا الأمر وائتنافه كانت علامة شر، وذهاب هذا الملك، فآثروا العافية ترزقوها، وكونوا مفاتيح خير كما كنتم أولاً، ولا تعرضونا للبلاء، فتتعرضوا له، فيصرعنا الله وإياكم‏.‏

وأيم الله‏:‏ إني لأقول قولي هذا وأدعوكم إليه وإني لخائف أن لا يتم، حتى يأخذ الله حاجته من هذه الأمة التي قل متاعها، ونزل بها ما نزل، فإن هذا الأمر الذي قد حدث أمر عظيم، وليس كقتل الرجل الرجل، ولا النفر الرجل، ولا القبيلة القبيلة‏.‏

فقالوا‏:‏ قد أصبت وأحسنت، فارجع فإن قدم علي وهو على مثل رأيك صلح الأمر‏.‏

قال‏:‏ فرجع إلى علي فأخبره فأعجبه ذلك، وأشرف القوم على الصلح، كره ذلك من كرهه، ورضيه من رضيه‏.‏

وأرسلت عائشة إلى علي تعلمه أنها إنما جاءت للصلح، ففرح هؤلاء وهؤلاء، وقام علي في الناس خطيباً‏:‏ فذكر الجاهلية وشقاءها وأعمالها، وذكر الإسلام وسعادة أهله بالألفة والجماعة، وأن الله جمعهم بعد نبيه صلى الله عليه وسلم على الخليفة أبي بكر الصديق، ثم بعده على عمر بن الخطاب، ثم على عثمان، ثم حدث هذا الحدث الذي جرى على الأمة، أقوام طلبوا الدنيا وحسدوا من أنعم الله عليه بها، وعلى الفضيلة التي من الله بها، وأرادوا رد الإسلام والأشياء على أدبارها، والله بالغ أمره‏.‏

ثم قال‏:‏ ألا إني مرتحل غداً فارتحلوا، ولا يرتحل معي أحد أعان على قتل عثمان بشيء من أمور الناس‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 266‏)‏

فلما قال هذا اجتمع من رؤوسهم جماعة كالأشتر النخعي، وشريح بن أوفى، وعبد الله بن سبأ المعروف بابن السوداء، وسالم بن ثعلبة، وغلاب بن الهيثم، وغيرهم في ألفين وخمسمائة، وليس فيهم صحابي ولله الحمد‏.‏

فقالوا‏:‏ ما هذا الرأي وعلي والله أعلم بكتاب الله ممن يطلب قتلة عثمان، وأقرب إلى العمل بذلك، وقد قال ما سمعتم، غداً يجمع عليكم الناس، وإنما يريد القوم كلهم أنتم، فكيف بكم وعددكم قليل في كثرتهم‏؟‏

فقال الأشتر‏:‏ قد عرفنا رأي طلحة والزبير فينا، وأما رأي علي فلم نعرفه إلى اليوم، فإن كان قد اصطلح معهم فإنما اصطلحوا على دمائنا، فإن كان الأمر هكذا ألحقنا علياً بعثمان، فرضي القوم منا بالسكوت‏.‏

فقال ابن السوداء‏:‏ بئس ما رأيت، لو قتلناه قتلنا، فإنا يا معشر قتلة عثمان في ألفين وخمسمائة وطلحة والزبير وأصحابهما في خمسة آلاف، لا طاقة لكم بهم، وهم إنما يريدونكم‏.‏

فقال غلاب بن الهيثم‏:‏ دعوهم وارجعوا بنا حتى نتعلق ببعض البلاد فنمتنع بها‏.‏

فقال ابن السوداء‏:‏ بئس ما قلت، إذاً والله كان يتخطفكم الناس‏.‏

ثم قال ابن السوداء‏:‏ قبحه الله يا قوم، إن عيركم في خلطة الناس، فإذا التقى الناس فانشبوا الحرب والقتال بين الناس ولا تدعوهم يجتمعون، فمن أنتم معه لا يجد بداً من أي يمتنع، ويشغل الله طلحة والزبير ومن معهما عما يحبون، ويأتيهم ما يكرهون، فأبصروا الرأي وتفرقوا عليه، وأصبح علي مرتحلاً، ومر بعبد القيس فساروا من معه حتى نزلوا بالزاوية، وسار منها يريد البصرة وسار طلحة والزبير ومن معهما للقائه، فاجتمعوا عند قصر عبيد الله بن زياد، ونزل الناس كل في ناحية‏.‏

وقد سبق علي جيشه وهم يتلاحقون به، فمكثوا ثلاثة أيام والرسل بينهم، فكان ذلك للنصف من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين، فأشار بعض الناس على طلحة والزبير بانتهاز الفرصة، من قتلة عثمان فقالا‏:‏ إن علياً أشار بتسكين هذا الأمر، وقد بعثنا إليه بالمصالحة على ذلك‏.‏

وقام علي في الناس خطيباً، فقام إليه الأعور بن نيار المنقري، فسأله عن إقدامه على أهل البصرة، فقال‏:‏ الإصلاح وإطفاء الثائرة ليجتمع الناس على الخير، ويلتئم شمل هذه الأمة‏.‏

قال‏:‏ فإن لم يجيبونا‏؟‏

قال‏:‏ تركناهم ما تركونا‏.‏

قال‏:‏ فإن لم يتركونا‏؟‏

قال‏:‏ دفعناهم عن أنفسنا‏.‏

قال‏:‏ فهل لهم في هذا الأمر مثل الذي لنا‏؟‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏‏.‏

وقام إليه أبو سلام الدالاني فقال‏:‏ هل لهؤلاء القوم حجة فيما طلبوا من هذا الدم إن كانوا أرادوا الله في ذلك‏؟‏

قال‏:‏ نعم‏!‏

قال‏:‏ فهل لك من حجة في تأخيرك ذلك‏؟‏

قال‏:‏ نعم‏!‏

قال‏:‏ فما حالنا وحالهم إن ابتلينا غداً‏؟‏

قال‏:‏ إني لأرجو أن لا يقتل منا ومنهم أحد نقي قلبه لله إلا أدخله الله الجنة‏.‏

وقال في خطبته‏:‏ أيها الناس أمسكوا عن هؤلاء القوم أيديكم وألسنتكم، وإياكم أن يسبقونا غداً، فإن المخصوم غداً مخصوم اليوم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/267‏)‏

وجاء في غضون ذلك الأحنف بن قيس في جماعة فانضاف إلى علي، وكان قد منع حرقوص بن زهير من طلحة والزبير، وكان قد بايع علياً بالمدينة، وذلك أنه قدم المدينة وعثمان محصور، فسأل عائشة وطلحة والزبير إن قتل عثمان من أبايع‏؟‏

فقالوا‏:‏ بايع علياً، فلما قتل عثمان بايع علياً‏.‏

قال‏:‏ ثم رجعت إلى قومي فجاءني بعد ذلك ما هو أفظع، حتى قال الناس‏:‏ هذه عائشة جاءت لتأخذ بدم عثمان، فحرت في أمري لمن أتبع، فمنعني الله بحديث سمعته من أبي بكر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بلغه أن الفرس قد ملكوا عليهم ابنة كسرى فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة‏)‏‏)‏‏.‏

وأصل هذا الحديث في ‏(‏صحيح البخاري‏)‏‏.‏

والمقصود‏:‏ أن الأحنف لما انحاز إلى علي ومعه ستة آلاف قوس، فقال لعلي‏:‏ إن شئت قاتلت معك، وإن شئت كففت عنك عشرة آلاف سيف، فقال‏:‏ اكفف عنا عشرة آلاف سيف‏.‏

ثم بعث علي إلى طلحة والزبير يقول‏:‏ إن كنتم على ما فارقتم عليه القعقاع بن عمرو فكفوا حتى ننزل فننظر في هذا الأمر، فأرسلا إليه في جواب رسالته‏:‏ إنا على ما فارقنا القعقاع بن عمرو من الصلح بين الناس، فاطمأنت النفوس وسكنت، واجتمع كل فريق بأصحابه من الجيشين، فلما أمسوا بعث علي عبد الله بن عباس إليهم، وبعثوا إليه محمد بن طليحة السجاد، وبات الناس بخير ليلة، وبات قتلة عثمان بشر ليلة، وباتوا يتشاورون وأجمعوا على أن يثيروا الحرب من الغلس، فنهضوا من قبل طلوع الفجر وهم قريب من ألفي رجل فانصرف كل فريق إلى قراباتهم، فهجموا عليهم بالسيوف، فثارت كل طائفة إلى قومهم ليمنعوهم‏.‏

وقام الناس من منامهم إلى السلاح فقالوا‏:‏ طرقتنا أهل الكوفة ليلاً، وبيتونا وغدروا بنا، وظنوا أن هذا عن ملأ من أصحاب علي، فبلغ الأمر علياً فقال‏:‏ ما للناس‏؟‏

فقالوا‏:‏ بيتنا أهل البصرة فثار كل فريق إلى سلاحه، ولبسوا اللأمة، وركبوا الخيول، ولا يشعر أحد منهم بما وقع الأمر عليه في نفس الأمر، وكان أمر الله قدراً مقدوراً، وقامت الحرب على ساق وقدم، وتبارز الفرسان، وجالت الشجعان فنشبت الحرب، وتوافق الفريقان، وقد اجتمع مع علي عشرون ألفاً، وألتف على عائشة ومن معها نحواً من ثلاثين ألفاً، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

والسابئة أصحاب ابن السوداء قبحه الله لا يفترون عن القتل، ومنادي علي ينادي‏:‏ ألا كفوا إلا كفوا، فلا يسمع أحد‏.‏

وجاء كعب بن سوار قاضي البصرة، فقال‏:‏ يا أم المؤمنين أدركي الناس لعل الله أن يصلح بك بين الناس، فجلست في هودجها فوق بعيرها وستروا الهودج بالدروع، وجاءت فوقفت بحيث تنظر إلى الناس عند حركاتهم، فتصاولوا وتجاولوا، وكان في جملة من تبارز الزبير وعمار، فجعل عمار ينخره بالرمح والزبير كاف عنه، ويقول له‏:‏ أتقتلني يا أبا اليقظان‏؟‏

فيقول‏:‏ لا يا أبا عبد الله، وإنما تركه الزبير لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏تقتلك الفئة الباغية‏)‏‏)‏، وإلا فالزبير أقدر عليه منه عليه، فلهذا كف عنه‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 7/268‏)‏

وقد كان من سنتهم في هذا اليوم أنه لا يذفف على جريح، ولا يتبع مدبر، وقد قتل مع هذا خلق كثير جداً، حتى جعل علي يقول لابنه الحسن‏:‏ يا بني ليت أباك مات قبل هذا اليوم بعشرين عاماً‏.‏

فقال له‏:‏ يا أبت قد كنت أنهاك عن هذا‏.‏

قال سعيد بن أبي عجرة، عن قتادة، عن الحسن، عن قيس بن عبادة قال‏:‏ قال علي يوم الجمل‏:‏ يا حسن ليت أباك مات منذ عشرين سنة‏.‏

فقال له‏:‏ يا أبه قد كنت أنهاك عن هذا‏.‏

قال‏:‏ يا بني إني لم أر أن الأمر يبلغ هذا‏.‏

وقال مبارك بن فضالة‏:‏ عن الحسن بن أبي بكرة‏:‏ لما اشتد القتال يوم الجمل، ورأى علي الرؤوس تندر، أخذ علي ابنه الحسن فضمه إلى صدره ثم قال‏:‏ إنا لله يا حسن‏!‏ أي‏:‏ خير يرجى بعد هذا، فلما ركب الجيشان وترآى الجمعان وطلب علي طلحة والزبير ليكلمهما فاجتمعوا حتى التفت أعناق خيولهم فيقال‏:‏ إنه قال لهما إني أراكما قد جمعتما خيلاً ورجالاً وعدداً، فهل أعددتما عذراً يوم القيامة‏؟‏ فاتقيا الله ولا تكونا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً، ألم أكن حاكماً في دمكما تحرمان دمي وأحرم دمكما، فهل من حديث أحل لكما دمي ‏؟‏

فقال طلحة‏:‏ ألبت على عثمان‏.‏

فقال علي‏:‏ ‏{‏يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 25‏]‏‏.‏

ثم قال‏:‏ لعن الله قتلة عثمان، ثم قال‏:‏ يا طلحة‏!‏ أجئت بعرس رسول الله صلى الله عليه وسلم تقاتل بها، وخبأت عرسك في البيت، أما بايعتني‏؟‏

قال‏:‏ بايعتك والسيف على عنقي‏.‏

وقال للزبير‏:‏ ما أخرجك‏؟‏

قال‏:‏ أنت، ولا أراك بهذا الأمر أولى به مني‏.‏

فقال له علي‏:‏ أما تذكر يوم مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني غنم فنظر إلي وضحك وضحكت إليه، فقلت‏:‏ لا يدع ابن أبي طالب زهوه، فقال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏إنه ليس بمتمرد لتقاتلنه وأنت ظالم له‏)‏‏)‏‏.‏

فقال الزبير‏:‏ اللهم نعم‏!‏ ولو ذكرت ما سرت مسيري هذا، ووالله لا أقاتلك‏.‏

وفي هذا السياق كله نظر‏.‏

والمحفوظ منه الحديث فقد رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي فقال‏:‏ حدثنا أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الدوري، حدثنا أبو عاصم، عن عبد الله بن محمد بن عبد الملك بن مسلم الرقاشي، عن جده عبد الملك، عن أبي جرو المازني قال‏:‏ شهدت علياً والزبير حين تواقفا، فقال له علي‏:‏ يا زبير‏!‏ أنشدك الله أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏إنك تقاتلني وأنت ظالم ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ نعم‏!‏ لم أذكره إلا في موقفي هذا، ثم انصرف‏.‏

وقد رواه البيهقي‏:‏ عن الحاكم، عن أبي الوليد الفقيه، عن الحسن بن سفيان، عن قطن بن بشير، عن جعفر بن سليمان، عن عبد الله بن محمد بن عبد الملك بن مسلم الرقاشي، عن جده، عن أبي جرو المازني، عن علي والزبير به‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/269‏)‏

وقال عبد الرزاق‏:‏ أنا معمر، عن قتادة قال‏:‏ لما ولي الزبير يوم الجمل بلغ علياً فقال‏:‏ لو كان ابن صفية يعلم أنه على حق ما ولي، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقيهما في سقيفة بني ساعدة فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أتحبه يا زبير‏؟‏

فقال‏:‏ وما يمنعني‏؟‏

قال‏:‏ فكيف بك إذا قاتلته وأنت ظالم له ‏؟‏‏)‏‏)‏

قال‏:‏ فيرون أنه إنما ولي لذلك‏.‏

قال البيهقي‏:‏ وهذا مرسل وقد روي موصولاً من وجه آخر‏.‏

أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن القاضي، أنا أبو عامر بن مطر، أنا أبو العباس عبد الله بن محمد بن سوار الهاشمي الكوفي، أنا منجاب بن الحارث، ثنا عبد الله بن الأجلح، ثنا أبي، عن مرثد الفقيه، عن أبيه‏.‏ قال‏:‏ وسمعت فضل بن فضالة يحدث، عن حرب بن أبي الأسود الدؤلي - دخل حديث أحدهما في حديث صاحبه - قال‏:‏ لما دنا علي وأصحابه من طلحة والزبير، ودنت الصفوف بعضها من بعض، خرج علي وهو على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم فنادى‏:‏ ادعوا لي الزبير بن العوام فإني علي، فدعي له الزبير فأقبل حتى اختلفت أعناق دوابهما، فقال علي‏:‏ يا زبير‏!‏ نشدتك الله أتذكر يوم مر بك رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في مكان كذا وكذا فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا زبير ألا تحب علياً‏؟‏

فقلت‏:‏ ألا أحب ابن خالي وابن عمي وعلي ديني‏؟‏

فقال‏:‏ يا زبير أما والله لتقاتلنه وأنت ظالم له ‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فقال الزبير‏:‏ بلى والله لقد نسيته منذ سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ذكرته الآن، والله لا أقاتلك، فرجع الزبير على دابته يشق الصفوف، فعرض له ابنه عبد الله بن الزبير فقال‏:‏ مالك‏؟‏

فقال‏:‏ ذكرني علي حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعته يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏لتقاتلنه وأنت ظالم له‏)‏‏)‏ فقال‏:‏ أو للقتال جئت‏؟‏ إنما جئت لتصلح بين الناس ويصلح الله بك هذا الأمر، قال‏:‏ قد حلفت أن لا أقاتله، قال‏:‏ اعتق غلامك سرجس وقف حتى تصلح بين الناس، فأعتق غلامه ووقف، فلما اختلف أمر الناس ذهب على فرسه‏.‏

قالوا‏:‏ فرجع الزبير إلى عائشة فذكر أنه قد آلى أن لا يقاتل علياً‏.‏

فقال له ابنه عبد الله‏:‏ إنك جمعت الناس فلما ترآى بعضهم لبعض خرجت من بينهم، كفر عن يمينك واحضر‏.‏

فأعتق غلاماً، وقيل‏:‏ غلامه سرجس‏.‏

وقد قيل‏:‏ إنه إنما رجع عن القتال لما رأى عماراً مع علي، وقد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعمار‏:‏ ‏(‏‏(‏تقتلك الفئة الباغية‏)‏‏)‏ فخشي أن يقتل عمار في هذا اليوم‏.‏

وعندي أن الحديث الذي أوردناه إن كان صحيحاً عنه فما رجعه سواه، ويبعد أن يكفر عن يمينه ثم يحضر بعد ذلك لقتال علي والله أعلم‏.‏

والمقصود‏:‏ أن الزبير لما رجع يوم الجمل سار فنزل وادياً يقال له‏:‏ وادي السباع، فاتبعه رجل يقال له‏:‏ عمرو بن جرموز فجاءه وهو نائم فقتله غيلة كما سنذكر تفصيله‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/270‏)‏

وأما طلحة‏:‏ فجاءه في المعركة سهم غرب يقال‏:‏ رماه به مروان بن الحكم فالله أعلم، فانتظم رجله مع فرسه فجمحت به الفرس، فجعل يقول‏:‏ إلي عباد الله إلي عباد الله، فاتبعه مولى له فأمسكها، فقال له‏:‏ ويحك‏!‏ أعدل بي إلى البيوت وامتلأ خفه دماً، فقال لغلامه‏:‏ أردفني، وذلك أنه نزفه الدم وضعف، فركب وراءه وجاء به إلى بيت في البصرة فمات فيه رضي الله عنه‏.‏

وتقدمت عائشة رضي الله عنها في هودجها، وناولت كعب بن سوار قاضي البصرة مصحفاً وقالت‏:‏ دعهم إليه - وذلك أنه حين اشتد الحرب وحمي القتال، ورجع الزبير، وقتل طلحة رضي الله عنهما - فلما تقدم كعب بن سوار بالمصحف يدعو إليه استقبله مقدمة جيش الكوفيين، وكان عبد الله بن سبأ - وهو ابن السوداء - وأتباعه بين يدي الجيش، يقتلون من قدروا عليه من أهل البصرة، لا يتوقفون في أحد، فلما رأوا كعب بن سوار رافعاً المصحف رشقوه بنبالهم رشقة رجل واحد فقتلوه، ووصلت النبال إلى هودج أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فجعلت تنادي‏:‏ الله الله‏!‏ يا بني اذكروا يوم الحساب، ورفعت يديها تدعو على أولئك النفر من قتلة عثمان، فضج الناس معها بالدعاء حتى بلغت الضجة إلى علي فقال‏:‏ ما هذا‏؟‏

فقالوا‏:‏ أم المؤمنين تدعو على قتلة عثمان وأشياعهم‏.‏

فقال‏:‏ اللهم ألعن قتلة عثمان، وجعل أولئك النفر لا يقلعون عن رشق هودجها بالنبال حتى لقي مثل القنفذ، وجعلت تحرض الناس على منعهم وكفهم، فحملت معه الحفيظة فطردوهم حتى وصلت الحملة إلى الموضع الذي فيه علي بن أبي طالب، فقال لابنه محمد بن الحنفية‏:‏ ويحك‏!‏ تقدم بالراية فلم يستطع، فأخذها علي من يده فتقدم بها، وجعلت الحرب تأخذ وتعطي، فتارة لأهل البصرة، وتارة لأهل الكوفة، وقتل خلق كثير، وجم غفير، ولم تر وقعة أكثر من قطع الأيدي والأرجل فيها من هذه الوقعة‏.‏

وجعلت عائشة تحرض الناس على أولئك النفر من قتلة عثمان، ونظرت عن يمينها فقالت‏:‏ من هؤلاء القوم‏؟‏

فقالوا‏:‏ نحن بكر بن وائل‏.‏

فقالت لكم يقول القائل‏:‏

وجاؤوا إلينا بالحديد كأنهم * من الغرة القعساء بكر بن وائل

ثم لجأ إليها بنو ناجية، ثم بنو ضبة، فقتل عنده منهم خلق كثير، ويقال‏:‏ إنه قطعت يد سبعين رجلاً وهي آخذة بخطام الجمل، فلما اثخنوا تقدم بنو عدي بن عبد مناف فقاتلوا قتالاً شديداً، ورفعوا رأس الجمل، وجعل أولئك يقصدون الجمل، وقالوا‏:‏ لا يزال الحرب قائماً ما دام هذا الجمل واقفاً، ورأس الجمل في يد عمرة بن يثربي، وقيل‏:‏ أخوه عمرو بن يثربي‏.‏

ثم صمد عليه علباء بن الهيثم وكان من الشجعان المذكورين، فتقدم إليه عمرو الجملي فقتله ابن يثربي، وقتل زيد بن صوحان، وأرتث صعصعة بن صوحان، فدعاه عمار إلى البراز، فبرز له فتجاولا بين الصفين وعماراً ابن تسعين سنة عليه فروة قد ربط وسطه بحبل ليف‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/271‏)‏

فقال الناس‏:‏ إنا لله وإنا إليه راجعون الآن يلحق عماراً بأصحابه، فضربه ابن يثربي بالسيف فاتقاه عمار بدرقته، فغصَّ فيها السيف ونشب، وضربه عمار فقطع رجليه، وأخذ أسيراً إلى بين يدي علي‏.‏

فقال‏:‏ استبقني يا أمير المؤمنين‏؟‏

فقال‏:‏ أبعد ثلاثة تقتلهم‏؟‏ ثم أمر به فقتل، واستمر زمام الجمل بعده بيد رجل كان قد استنابه فيه من بني عدي، فبرز إليه ربيعة العقيلي فتجاولا حتى قتل كل واحد صاحبه، وأخذ الزمام الحارث الضبي، فما رؤي أشد منه وجعل يقول‏:‏

نحن بنو ضبة أصحاب الجمل * نبارز القرن إذا القرن نزل

ننعي ابن عفان بأطراف الأسل * الموت أحلى عندنا من العسل

ردوا علينا شيخنا ثم بجسل

وقيل‏:‏ إن هذه الأبيات لوسيم بن عمرو الضبي‏.‏

فكلما قتل واحد ممن يمسك الجمل يقوم غيره حتى قتل منهم أربعون رجلاً‏.‏

قالت عائشة‏:‏ ما زال جملي معتدلاً حتى فقدت أصوات بني ضبة، ثم أخذ الخطام سبعون رجلاً من قريش، وكل واحد يقتل بعد صاحبه، فكان منهم محمد بن طلحة المعروف‏:‏ بالسجاد‏.‏

فقال لعائشة‏:‏ مريني بأمرك يا أمه‏؟‏

فقالت‏:‏ آمرك أن تكون كخير ابني آدم، فامتنع أن ينصرف وثبت في مكانه، وجعل يقول‏:‏ حم لا ينصرون، فتقدم إليه نفر فحملوا عليه فقتلوه، وصار لكل واحد منهم بعد ذلك يدعي قتله، وقد طعنه بعضهم بحربة فأنفذه وقال‏:‏

وأشعث قوام بآيات ربه * قليل الأذى فيما ترى العين مسلمِ

هتكتُ له بالريح جيبَ قميصه * فخر صريعاً لليدين وللفمِ

يناشدني حم والمرح شاجن * فهلا تلا حم قبل التقدمِ

على غير شيء غير أن ليس تابعاً * علياً ومن لا يتبع الحق يندمِ

وأخذ الخطام عمرو بن الأشرف، فجعل لا يدنو منه أحد إلا حطّه بالسيف، فأقبل إليه الحارث بن زهير الأزدي وهو يقول‏:‏

يا أمنا يا خير أم نعلم * أما ترين كمَ شجاع يكلمُ

وتجتلى هامته والمعصمُ

‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 272‏)‏

واختلفا ضربتين فقتل كل واحد صاحبه، وأحدق أهل النجدات والشجاعة بعائشة، فكان لا يأخذ الراية ولا بخطام الجمل إلا شجاع معروف، فيقتل من قصده، ثم يقتل بعد ذلك، وقد فقأ بعضهم عين عدي بن حاتم ذلك اليوم‏.‏

ثم تقدم عبد الله بن الزبير فأخذ بخطام الجمل وهو لا يتكلم، فقيل لعائشة‏:‏ إنه ابنك ابن أختك، فقالت‏:‏ واثكل أسماء ‏!‏

وجاء مالك بن الحارث الأشتر النخعي فاقتتلا فضربه الأشتر على رأسه فجرحه جرحاً شديداً، وضربه عبد الله ضربة خفيفة، ثم اعتنقا وسقطا إلى الأرض يعتركان، فجعل عبد الله بن الزبير يقول‏:‏

اقتلوني ومالكاً * واقتلوا مالكاً معي

فجعل الناس لا يعرفون مالكاً من هو، وإنما هو معروف بالأشتر، فحمل أصحاب علي وعائشة فخلصوهما، وقد جرح عبد الله بن الزبير يوم الجمل بهذه الجراحة سبعاً وثلاثين جراحة، وجرح مروان بن الحكم أيضاً‏.‏

ثم جاء رجل فضرب الجمل على قوائمه فعقره، وسقط إلى الأرض فسمع له عجيج ما سمع أشد ولا أنفذ منه، وآخر من كان الزمام بيده زفر بن الحارث فعقر الجمل وهو في يده‏.‏

ويقال‏:‏ إنه اتفق هو وبجير بن دلجة على عقره‏.‏

ويقال‏:‏ إن الذي أشار بعقر الجمل علي‏.‏

وقيل‏:‏ القعقاع بن عمرو لئلا تصاب أم المؤمنين، فإنها بقيت غرضاً للرماة، ومن يمسك بالزمام برجاساً للرماح، ولينفصل هذا الموقف الذي قد تفانى فيه الناس‏.‏

ولما سقط البعير إلى الأرض انهزم من حوله من الناس، وحمل هودج عائشة وإنه لكالقنفذ من السهام، ونادى منادي علي في الناس‏:‏ إنه لا يتبع مدبر، ولا يذفف على جريح، ولا يدخلوا الدور‏.‏

وأمر علي نفراً أن يحملوا الهودج من بين القتلى، وأمر محمد بن أبي بكر وعماراً أن يضربا عليها قبة، وجاء إليها أخوها محمد، فسألها هل وصل إليك شيء من الجراح ‏؟‏‏.‏

فقالت‏:‏ لا‏!‏ وما أنت ذاك يا ابن الخثعمية‏.‏

وسلم عليها عمّار فقال‏:‏ كيف أنت يا أم‏؟‏

فقالت‏:‏ ليس لك بأم‏.‏

قال‏:‏ بلى‏!‏ وإن كرهت‏.‏

وجاء إليها علي بن أبي طالب أمير المؤمنين مسلماً فقال‏:‏ كيف أنت يا أمه‏؟‏

قالت‏:‏ بخير‏.‏

فقال‏:‏ يغفر الله لك‏.‏

وجاء وجوه الناس من الأمراء والأعيان يسلمون على أم المؤمنين رضي الله عنها، ويقال‏:‏ إن أعين بن ضبيعة المجاشعي اطلع في الهودج، فقالت‏:‏ إليك لعنك الله‏.‏

فقال‏:‏ والله ما أرى إلا حميراء‏.‏

فقالت‏:‏ هتك الله سترك، وقطع يدك، وأبدى عورتك، فقتل بالبصرة وسلب وقطعت يده ورمي عرياناً في خربة من خرابات الأزد‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 273‏)‏

فلما كان الليل دخلت أم المؤمنين البصرة - ومعها أخوها محمد بن أبي بكر - فنزلت في دار عبد الله بن خلف الخزاعي وهي أعظم دار بالبصرة على صفية بنت الحارث بن أبي طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار، وهي أم طلحة، الطلحات عبد الله بن خلف‏.‏

وتسلل الجرحى من بين القتلى فدخلوا البصرة، وقد طاف علي بين القتلى فجعل كلما مر برجل يعرفه ترحم عليه ويقول‏:‏ يعز علي أن أرى قريشاً صرعى‏.‏

وقد مر على ما ذكر على طلحة بن عبيد الله وهو مقتول، فقال‏:‏ لهفي عليك يا أبا محمد، إنا لله وإنا إليه راجعون، والله لقد كنت كما قال الشاعر‏:‏

فتى كان يدنيه الغنى من صديقه * إذا ما هو استغنى ويبعده الفقرُ

وأقام علي بظاهر البصرة ثلاثاً، ثم صلى على القتلى من الفريقين، وخص قريشاً بصلاة من بينهم، ثم جمع ما وجد لأصحاب عائشة في المعسكر، وأمر به أن يحمل إلى مسجد البصرة، فمن عرف شيئاً هو لأهلهم فليأخذه، إلا سلاحاً كان في الخزائن عليه سمة السلطان‏.‏

وكان مجموع من قتل يوم الجمل من الفريقين عشرة آلاف، خمسة من هؤلاء وخمسة من هؤلاء، رحمهم الله، ورضي عن الصحابة منهم‏.‏

وقد سأل بعض أصحاب علي علياً أن يقسم فيهم أموال أصحاب طلحة والزبير، فأبى عليه فطعن فيه السبائية وقالوا‏:‏ كيف يحلُّ لنا دماؤهم ولا تحل لنا أموالهم‏؟‏

فبلغ ذلك علياً، فقال‏:‏ أيكم يحب أن تصير أم المؤمنين في سهمه‏؟‏

فسكت القوم، ولهذا لما دخل البصرة فضَّ في أصحابه أموال بيت المال، فنال كل رجل منهم خمسمائة، وقال‏:‏ لكم مثلها من الشام، فتكلم فيه السبائية أيضاً، ونالوا منه من وراء وراء‏.‏

 فصل فراغ علي رضي الله عنه من أمر الجمل

ولما فرغ علي من أمر الجمل، أتاه وجوه الناس يسلمون عليه، فكان ممن جاءه الأحنف بن قيس في بني سعد - وكانوا قد اعتزلوا القتال - فقال له علي‏:‏ تربعت - يعني بنا - فقال‏:‏ ما كنت أراني إلا قد أحسنت وبأمرك كان ما كان يا أمير المؤمنين، فارفق فإن طريقك الذي سلكت بعيد، وأنت إلي غداً أحوج منك أمس، فاعرف إحساني، واستبق مودتي لغدٍ، ولا تقل مثل هذا فإني لم أزل لك ناصحاً‏.‏

قالوا‏:‏ ثم دخل علي البصرة يوم الاثنين فبايعه أهلها على راياتهم، حتى الجرحى والمستأمنة‏.‏

وجاءه عبد الرحمن بن أبي بكرة الثقفي فبايعه، فقال له علي‏:‏ أين المريض‏؟‏ - يعني‏:‏ أباه -‏.‏

فقال‏:‏ إنه والله مريض يا أمير المؤمنين، وإنه على مسرتك لحريص‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 274‏)‏

فقال‏:‏ امش أمامي، فمضى إليه فعاده، واعتذر إليه أبو بكر فعذره، وعرض عليه البصرة فامتنع‏.‏

وقال‏:‏ رجل من أهلك يسكن إليه الناس، وأشار عليه بابن عباس فولاه على البصرة، وجعل معه زياد بن أبيه على الخراج وبيت المال، وأمر ابن عباس أن يسمع من زياد، - وكان زياد معتزلاً -‏.‏

ثم جاء علي إلى الدار التي فيها أم المؤمنين عائشة فاستأذن ودخل، فسلم عليها ورحبت به، وإذا النساء في دار بني خلف يبكين على من قتل، منهم عبد الله وعثمان ابنا خلف، فعبد الله قتل مع عائشة، وعثمان قتل مع علي، فلما دخل علي قالت له‏:‏ صفية امرأة عبد الله، أم طلحة الطلحات‏:‏ أيتم الله منك أولادك كما أيتمت أولادي، فلم يرد عليها علي شيئاً، فلما خرج أعادت عليه المقالة أيضاً فسكت‏.‏

فقال له رجل‏:‏ يا أمير المؤمنين، أتسكت عن هذه المرأة وهي تقول ما تسمع‏؟‏

فقال‏:‏ ويحك‏!‏ إنا أمرنا أن نكف عن النساء وهن مشركات أفلا نكف عنهن وهن مسلمات‏؟‏‏.‏

فقال له رجل‏:‏ يا أمير المؤمنين إن على الباب رجلين ينالان من عائشة، فأمر علي القعقاع بن عمرو أن يجلد كل واحد منهما مائة، وأن يخرجهما من ثيابهما‏.‏

وقد سألت عائشة عمن قتل معها من المسلمين، ومن قتل من عسكر علي، فجعلت كلما ذكر لها واحد منهم ترحمت عليه ودعت له‏.‏

ولما أرادت أم المؤمنين عائشة الخروج من البصرة، بعث إليها علي رضي الله عنه بكل ما ينبغي من مركب وزاد ومتاع وغير ذلك، وأذن لمن نجا ممن جاء في الجيش معها أن يرجع إلا أن يحب المقام، واختار لها أربعين امرأة من نساء أهل البصرة المعروفات، وسير معها أخاها محمد بن أبي بكر‏.‏

فلما كان اليوم الذي ارتحلت فيه جاء علي فوقف على الباب وحضر الناس، وخرجت من الدار في الهودج فودعت الناس، ودعت لهم، وقالت‏:‏ يا بني لا يعتب بعضنا على بعض، إنه والله ما كان بيني وبين علي في القدم إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها، وإنه على معتبتي لمن الأخيار‏.‏

فقال علي‏:‏ صدقت، والله ما كان بيني وبينها إلا ذاك، وإنها لزوجة نبيكم صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة‏.‏

وسار علي معها ودعا ومشيعاً أميالاً، وسرح بنيه معها بقية ذلك اليوم - وكان يوم السبت مستهل رجب سنة ست وثلاثين - وقصدت في مسيرها ذلك إلى مكة فأقامت بها إلى أن حجت عامها ذلك، ثم رجعت إلى المدينة رضي الله عنها‏.‏

وأما مروان بن الحكم فإنه لما فر استجار بمالك بن مسمع فأجاره ووفى له، ولهذا كان بنو مروان يكرمون مالكاً ويشرفونه، ويقال‏:‏ إنه نزل دار بني خلف، فلما خرجت عائشة خرج معها، فلما سارت هي إلى مكة سار إلى المدينة‏.‏

قالوا‏:‏ وقد علم من بين مكة والمدينة والبصرة بالوقعة يوم الوقعة، وذلك مما كانت النسور تخطفه من الأيدي والأقدام فيسقط منها هنالك، حتى أن أهل المدينة علموا بذلك يوم الجمل قبل أن تغرب الشمس، وذلك أن نسراً مر بهم ومعه شيء فسقط، فإذا هو كف فيه خاتم نقشه عبد الرحمن بن عتاب‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 275‏)‏

هذا ملخص ما ذكره أبو جعفر بن جرير رحمه الله عن أئمة هذا الشأن، وليس فيما ذكره أهل الأهواء من الشيعة وغيرهم من الأحاديث المختلفة على الصحابة، والأخبار الموضوعة التي ينقلونها بما فيها‏.‏ وإذا دعوا إلى الحق الواضح اعرضوا عنه وقالوا‏:‏ لنا أخبارنا ولكم أخباركم، فنحن حينئذ نقول لهم‏:‏ سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين‏.‏